الرؤساء في المقرّ الصيفي... من الأمير بشير إلى "الرئيس القوي"

سلوى أبو شقرا

قصر بيت الدين المقرُّ الصيفي لرئاسة الجمهورية وفق التقليد الذي درجَ عليه رؤساء الجمهورية اللبنانية منذ عام 1943. ولكنْ في خضمِّ الحرب الأهلية وأحداث الجبل استخدم الحزب التقدمي الاشتراكي المسيطر آنذاك على منطقة الشوف القصر مركزاً للاحتفالات الحزبية واللقاءات الخاصة بقيادته، ووضع حينذاك نصباً تذكارياً للشهيد كمال جنبلاط في الساحة الكبيرة. ولهذا القصر رمزية تاريخية وأخرى سياسية تذكِّر بالحساسيات الدرزية - المارونية على رغم مصالحة الجبل.




"نحن هنا يا بشير"

ارتبط قصر بيت الدين باسم الأمير بشير الشهابي، طوال فترة حكمه التي استمرت 54 عاماً، كرمزٍ للسلطة المركزية، وقد صرف أموالاً طائلة على بنائه كنوعٍ من التكريس لمهابة السلطة، ورمى من خلاله إلى ضرب رؤوس الإقطاع للسيطرة على المتصرفية في تلك المرحلة. ويقول البعض إنَّ بشير الشهابي حكمَ وظلمَ الدروز، وضرب الإقطاع الدرزي والعائلات المارونية وهو من صاغ حرب 1868، وفق المؤرخ الدكتور عصام خليفة في حديث لـ"النهار". ويوضح أنَّ "قتل الأمير بشير الشهابي لبشير جنبلاط في العام 1825، تسبَّب بحساسية درزية تجاه الأمير وقصره. وقد قال وليد جنبلاط كلمته الشهيرة: "نحن هنا يا بشير الشهابي"، ما معناه أنَّك قتلت جدَّنا بشير الثالث ونحن نثأر له". ويضيف: "في لبنان ما من أرض لطائفة واحدة بل أرض للطوائف، وفي الشوف يعيش الموارنة والدروز منذ عقود، إلاَّ أنَّ عوامل خارجية وأخرى داخلية ساهمت في نشر الفتن التي وجبَ أخذ العبرة منها والحفاظ على العيش المشترك بين الطائفتين".


بين البشيرين

وأجرت "النهار" حديثاً مع الصحافي عزت صافي، فأخبر أنَّه "بعد عودة الأمير بشير الشهابي من منفاه في مصر خصَّص بشير جنبلاط موكباً شوفياً من بعقلين إلى إقليم الخروب وصيدا لاستقبال الأمير العائد من الأسر، ورافقه في جولته إلى القرى. يومذاك شعرَ الأمير بشير أنَّ الجماهير تهتفُ لجنبلاط، وهنا بدأت شرارة الأزمة بين الدروز والموارنة في لبنان، إذ أحسَّ الشهابي أن القيادة والزعامة باتتا لبشير جنبلاط، وقال في مرج بعقلين وهو يمتطي حصانه إلى جانب جنبلاط على حصانه أيضاً: "يا شيخ بشير طريق المختارة من هون وطريق بيت الدين من هون"، ففهم جنبلاط أنَّ عليه الاهتمام بالمختارة والأمير الشهابي يهتمُّ ببيت الدين. في هذا اليوم بدأ الشرخُ بين الإمارة الشهابية وقيادة آل جنبلاط على زعامة لبنان والشوف. وفي حادثةٍ أخرى جاء الشيخ بشير إلى قصر الأمير بشير، الذي كان يجلس في ديوانه في القصر ومن حوله الحاشية. لم يقف الأمير، وعندما وصل بشير جنبلاط إلى وسط الديوان وقفَ الأمير قائلاً: "يا شيخ بشير بيت الدين ما بتساع بشيرين"، فأجابه: "اللي متضايق يخرج". قال كلمته وخرج من الديوان وبعدها بدأت المعارك".



رؤساء تعاقبوا على القصر

وعن إقامة الرؤساء في قصر بيت الدين، يخبر صافي أنَّ "الشيخ بشارة الخوري رئيس الاستقلال الأول كان يشعر برئاسته عبر إقامته في بيت الدين، خصوصاً أنَّ القصر الرئاسي في أيام ولايته كان في منطقة القنطاري. آنذاك كان القصر في بيروت بسيطاً وتحيط به حديقة تتسع لسيارتين، أما في بيت الدين فكان يستمتع بالفخامة لأنَّه يقطن في قصر الأمراء، فكان لبيت الدين رمزية لدى الخوري. وبعدما قدَّم استقالته من رئاسة الجمهورية في 18 أيلول 1953 قطنَ في عاليه في منزل على الطريق العام صار اليوم مهملاً.


الرئيس كميل شمعون يوم انتخابه في بيروت في 23 أيلول عام 1953، توجه بموكبه إلى دير القمر حيث أعدَّ له كمال جنبلاط استقبالاً شعبياً حاشداً في الشوف وواكبه من دير القمر إلى قصر بيت الدين. هذه الرمزية أنَّ كميل شمعون لم يتوجه إلى قصر القنطاري بل مرَّ بمدينته وأكمل إلى قصر الأمراء.



الرئيس فؤاد شهاب زار بيت الدين يوما واحدا حيث استقبل وفدا للمغتربين وأقام مؤتمراً لهم في قصر الأونيسكو في بيروت، تلاه احتفال عند "دوَّار بيت الدين". وهو زاره كي لا يقال إنه لا يرغب في الإقامة في بيت الدين على رغم أنَّ الشهابية قصر أجداده. لكنه كان متواضعاً لا يحب البهرجة، وعاش في منزله في جونيه ونقل القصر الجمهوري إلى قصر صربا.

الرئيس شارل حلو حافظ على الوجود الرمزي للحضور الرئاسي في بيت الدين، فأكَّد حضوره في القصر. أما الرئيس سليمان فرنجية فأصرَّ على الإقامة في المقر الصيفي وعقد جلسات لمجلس الوزراء أكثر من مرة في بيت الدين.


الرئيس الياس سركيس بدوره حافظ على عقد جلسات وزارية ليتفادى العتب. وبعد عهده انتهت مرحلة الرئاسة اللبنانية المطمئنة الآمنة لانتقال الرؤساء. فبشير الجميل وأمين الجميل ورينه معوض لم يتمكنوا من الإقامة في القصر نظراً الى الظروف الأمنية والسياسية التي كانت سائدة في البلاد.


الرئيس الياس الهراوي كان له مزاجه الخاص، وفي عهده انتشرت قوات الردع السورية في الشوف، وأقام العناصر في قصر بيت الدين. يومذاك لم يكن ليتمكن رئيس الجمهورية من الحصول على حماية الحرس الجمهوري بل كان ليكون تحت حراسة قوات الردع.

الرئيس اميل لحود استأنف الإقامة في بيت الدين بضعة أسابيع في الصيف، بدءاً من العام 1999. وتبعهُ خلفه الرئيس ميشال سليمان، وفي عام 2017 الرئيس ميشال عون. وهذه البداية للرئيس عون في بيت الدين تمهِّد لمرحلة استقرار وهدوء بعد السنوات الصعبة التي شهدها لبنان".



ويوضح صافي أنَّ "رمزية الوجود الرئاسي في بيت الدين مختلفة، إذ إنَّ صفة الرئيس لا تعطي المهابة للقصر بل العكس يضيف القصر المهابة إلى الرؤساء".

مزيج بين الحجر اللبناني والزخرفات الدمشقية

من يقرأ كتب التاريخ يعلمُ أنَّ الأمير بشير الشهابي الثاني بنى قصر بيت الدين سنة 1804. ويشكِّل القصر وفقاً لعالمة الآثار والفنون الدكتورة أمل بريدي في حديثها لـ"النهار" "دليل تواصل بين الحكم الوطني من الإمارة وصولاً إلى عهد الجمهورية. وهو نموذج للعمارة اللبنانية في القرن التاسع عشر. في عام 1789 تسلم الأمير بشير الشهابي مقاليد الحُكم، فنقل الإمارة من دير القمر إلى بيت الدين، جاعلاً من القصر مقر إمارته. يعلو القصر 750 متراً عن سطح البحر، وتطلّب بناؤه نحو 15 عاماً، وأصبح عمره 213 عاماً. وتميَّز بالقناة التي شيِّدَت بين عامي 1812 و1815 لجرِّ المياه من نبع الصفا إليه، وتدلُّ القناة والقصر على جهد الأمير بشير ونشاطه في حقل العمران".

وتضيف: "بقيَ القصر مقراً للإمارة، وكان الأمير متحالفًا مع محمد علي باشا والي مصر ضد الدولة العثمانية، وبانهزام المصريين في نهاية المطاف، غادر الأمير لبنان إلى المنفى وكانت تلك نهاية الإمارة اللبنانية. ولكنْ في عام 1840 نُفيَ الأمير بشير إلى مالطا من ثمَّ إلى اسطنبول حيث توفيَ سنة 1850. وبعد إلغاء الإمارة وقيام نظام القائمقاميتين، في عام 1860 أي في عهد المتصرفية وعقب الأحداث وسيطرة السلطنة العثمانية على البلاد وضعف الإمارة الشهابية، ابتاع المتصرف داود باشا الأرمني للحكومة اللبنانية قصر بيت الدين من آل شهاب، وجعل منه مقراً صيفياً للمتصرفين الذين تعاقبوا من العام 1864 إلى العام 1915".

فن الهندسة، وفق بريدي، يمثل "مزيجاً متناسقاً بين الحجر اللبناني من الخارج والزخرفات الدمشقية والأمثال العربية المحفورة على الجدران من الداخل. وقد شارك في العمارة أهم البنائين اللبنانيين، من أبرزهم الشقيقان رستم ويوسف مجاعص، إلى جانب مهندسين أوروبيين وسوريين اهتموا بالفسيفساء، أما الرخام فجُلبَ من فلورنسا في إيطاليا".


لطالما تأرجحت زعامة الشوف بين قصرَي المختارة وبيت الدين، والتمايز موجود منذ عقود، ولكن في النهاية وحدة الجبل هي الأساس، هذا الجبل الذي يرتكز على مربع "دير القمر، بيت الدين، المختارة، وبعقلين" يشكِّل دوماً الميزان في السياسة اللبنانية الرسمية أو الشعبية.

salwa.abouchacra@annahar.com.lb

Twitter: @Salwabouchacra