"ليلة" جودي لمع تسطع كإرهاب مسدس في عتمة بيروت

محمد شرف

"ليلة" هو عنوان فيلم قصير قدّمته جودي لمع، التي أنهت دراستها في مادة السمعي البصري من جامعة القديس يوسف. عُرض الفيلم أمام الجمهور في سينما "متروبوليس" بـ"مبنى سوفيل"، بناء على دعوات خاصة، علماً أن القاعة كانت مفتوحة امام جميع الراغبين، الذين قدموا بأعداد كبيرة إلى درجة أن القاعة امتلأت عن آخرها تقريباً، ما جعلنا نشعر بالغيرة، نحن جماعة الفن التشكيلي، الذين نجرّ الناس جراً إلى المعارض، ومن ثم نقع تحت وطأة أسئلة بعضهم التي لا تنمّ عن فهم دقيق لطبيعة العمل المعروض وأهدافه.

لكن الإقبال الذي شهدناه، وإن كان يُشير من جهة إلى سعة العلاقات التي استطاعت جودي لمع نسج خيوطها، نظراً إلى لطافتها الواضحة ودماثتها، وموهبتها الحرفية التي لا بد أن تتجلّى مستقبلاً، فهو يُشير أيضاً إلى أن الفن السابع يبقى الأكثر جماهيرية من ضمن الفنون البصرية الأخرى، وهذا ما كان لفت إليه فلاديمير إيليتش لينين، ذات يوم، وإن كنا نأخذ هنا بالمدلول الفني، في حين أن عبارة القائد الثوري كانت ذات بُعد سياسي.

فيلم جودي لمع اتبع أسلوباً واقعياً، لجهة عدم الإنسياق، في ما شاهدناه، وراء فانتازيا قد تُرضي طموحات الصانع، لكنها لا تتوافق مع ذائقة الجمهور الشديدة الإختلاف، علماً أن الغالبية العظمى من جمهورنا السينمائي ترزح هذه الأيام تحت ثقل المؤثرات البصرية الشديدة الإتقان، إذا كان الشريط السينمائي قادماً إلينا من بعيد، أو توافق وتتساهل في حكمها على دراما محليّة لم تجد سبيلها بعد، نسبياً، نحو نص متين أو أداء بعيد عن التصنّع.

في الفيلم الذي نحن في صدده يلتقي الشاب زياد بالفتاة ليلى، إثر سهرة في ملهى كان الشاب خلالها يحتفل بخروجه من السجن، الذي قضى فيه سنوات عشر بتهمة السرقة بقوّة السلاح. يقرر الإثنان التنزّه ليلاً في شوارع بيروت، والإستمتاع بسكينة لا يوفّرها ضجيج النهار، إضافة إلى تأمّل بيوت المدينة الوادعة على غير عادة، علماً أن لا لقطات مباشرة ومستقلّة في الفيلم تعكس هيئة المدينة، التي نستدلّ على جماليتها من الحديث المتبادل بين الطرفين. هذه الأحاديث تنطلق بدءا من العاديات، ثم تسير الكلمات تدريجاً نحو بعض الأمور الذاتية، كما هي الحال في مواضع مشابهة. إيقاع الفيلم يبدو بطيئاً في بدايته، الشاب يتحضّر في منزله من أجل الذهاب إلى الملهى. الإنتقال اللحظوي من الصمت البيتي إلى موسيقى الملهى يحدث فجأة، لكنه يؤدي دوره لصالح التبدل الإيقاعي. صوت الفتى يكون مرتفعاً في الدقائق الأولى من حديثه مع الفتاة في الشارع الهادئ، كأنه إعتاد الحديث ضمن أجواء العلبة الليلية التي تُجبر المرء على رفع صوته كي يُسمع، على أن الفتاة تبقى على هدوء واضح، وبعض من شرود يدفعان إلى التساؤل.

لا ينحسر التساؤل إلاّ في نهاية الفيلم. يسرّ الشاب إلى الفتاة أن إمرأة كانت أُصيبت في عملية السرقة الفاشلة التي دخل على أثرها إلى السجن، وصارت مقعدة بفعل الإصابة. في اللقطة ما قبل الأخيرة من الشريط، على شاطئ البحر، وبعدما استأذن الشاب الفتاة لقضاء حاجته في الهواء الطلق، يعود صوبها ليراها وفي يدها مسدس مصوّب نحوه. لم نسمع صوت إطلاق نار، بل نرى الفتاة في اللقطة الأخيرة وحدها على شاطئ عين المريسة تردّ على إتصال من والدتها المقعدة، التي نستدلّ عن حالتها بفعل حديث إبنتها التي تعدها بالقدوم إليها لمساعدتها على الإغتسال. في هذه اللحظة قد تكون المدينة هي ذاتها، وشاطئ البحر هو نفسه، لكننا نرى فتاة أخرى، وربما مدينة أخرى تختزن في داخلها مآسي غير منظورة، ويتكوّن شعورنا هذا كلّه خلال ليلة واحدة من ليالي هذه المدينة، التي استطاعت جودي لمع أن تعكس بعض جمالها و"آهاتها" عبر لغة سينمائية متينة، نتصوّر أنها ستتبلور مستقبلاً من خلال موضوعات و"ليال" أخرى.