ماذا يشدّ الناس إلى فيروز؟

نجم الدين خلف الله

كلماتُ #فيروز من أغانيها السحرُ الحلال، ولكنها لم تَجز بعدُ عتبة التحليل الألسني الصارم. نُصوصها تعبقُ بأريج الذاكرة وتتهادى، ومن نكبات الراهن تُقَدُّ. وقلَّ من يعكف على طبيعة التعبير فيها يفككها بمنهج الباحثين. والمتأمِّل في مُتون ما صدحت به أرزة لبنان من الفِقَر والأبيات، وهي الظاهرة النصية الأروع في النصف الثاني من القرن المنصرم، يُطرِبُه استخدامها ثلاثةَ سجلات قولية متباينة. وقد يبهر، عند معالجتها، بمدى ثراها وتشابكها. ومن الرهانات أن توضع نصوصها حلقةً ضمن سلسلة تطورات الجمال، في الديوان الجامع للشعر العربي وكلامه العالي. فمن أين استقى كتابُ أغانيها مادتهم الشعرية؟    

غنت سفيرة النجوم من السجلّ العربي الفصيح، وهو الذي يلامس سماءَ الأدب الخالص وأرقى مستويات الخطاب فيه، جزالةً ورُواءً، وضمنت أغانيها عبارات عتيقة، عفا عليها الزمن، فلم يزدها إلا طلاوةً وفَتاء، مثل تلك التي زَيَّنت رائعةَ : "غَنَّيتُ مَكة أهلها الصيدا"، أو "شامُ يا ذا السَّـيفُ لم يَغِب"، أبياتٌ من عيون الشعر صاغها يراعُ سعيد عقل (1912-2014) في لحظات انعتاقه وقد تجلت جزالةً نادرة، لا تضاهيها سوى متانة "زَهرة المدائن" للأخويْن الرحباني. ولعلَّ فيروز أرادت، باستخدام هذا الجنس، أن تتوجَّه إلى أوسع جمهور عربي، تلامس من شغاف قلبه أمهات القضايا الكبرى، ووترها القومي، تضيءُ له دربَ الهوية العربية، وليس كالفصيح جامعًا بين سائر العرب، وإن اختَلفوا.  

واستخدمت ثانيًا اللغة الوسطى، وكلماتُها منزلةٌ بين مَنزلتَيْن، تَضمن، بسهولة مأخذها ويُسر عباراتها، أن تفهمها كل الفئات الاجتماعية والثقافية، وهو مستوىً بين الفصيح الموغل في قِدمه، والدارج المتأتي من اللهجات المحكية، ونَبرات المتكلمين، ومن نماذجه أغنية: "موش فارقة معاي" أو "الحلوة دي"، مزجًا بين لهجتَيْن وطاقتَيْن في الإيحاء متباينتَيْن.

واستعملت ثالثًا اللهجة اللبنانية خالصةً، أداءً ومُعجمًا، تراكيبَ وعوالمَ، وهو المستوى الغالب على أغانيها، تمتحُ وحداتِه من مخاطبات الناس في يومياتهم، وترانيم العاشقين في خَلَواتِهم، ونبرات القرويين حين تلتوي ألسنتهم بتقاسيم اللغة، ومن أشهر أمثلتها: "ع هدير البوسطة"، ترى فيها اختصار "على" إلى "ع"، جريًا على سُنَنِ أهل لبنان، واستحضار "هدير"، وهي من الفصيح، واستنساخ "البوسطة" تعريبًا لـposte وهذا العنوان شاهدٌ على تنوع السجلات التي استقت منها ترانيمها. ويفهمُ سائر المستمعين، أيًّا كان القطر العربي، هذا الخطابَ المحلي، مع أنه يظل شديد الالتصاق بأجواء لبنانَ وما يُتداول في ضِياعه من المحاورات.

أغاني فيروز يُطرب فيها اللحنُ، ويُمتعُ الصوت، ولكن لا تُدرك بالعقل التحليلي مراجع الخطاب وتراكيب الكلام فيها، وإن كابد وجع التقصي. وقلَّ مِن عشاق فيروز مَن أحبها فقط لكلماتها، أو علَّلَ سحرها بالنصوص التي تؤديها، كيف وهو سحرٌ مبثوث في تفاعل درجات الكلام وتلاقيها روافدَ في أغنية واحدة. وسيظلُّ السؤال الألسني حول الإبداع الفيروزي مفتوحًا، وسيبقى المكوِّن اللغوي في تجربتها جزءًا يسيرًا مما يشدُّ الجمهورَ إليها. إذ قلما التفتت الناس إلى ما انتظم في أغانيها من الجُمَل، وما أندر من درس صورَ البيان لديها، أو أجال نظره في معاني نصوصها مقرًا للجمال. خُلِبَت الناس عن الكلماتِ بعذوبة الصوت ورَوعة الأداء، وأشياء أخرى من السياسة. واستمع إلى سؤالها الأخير: "لمين"، لن تجد سوى عبارات مقتضبة، وفيها اتَّصَلَ السحر.