قراءة في الأسباب الخفية لانفجار السجال بين الحريري وجنبلاط

السجال الذي انفجر خلال الساعات القليلة الماضية بين رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، واستخدمت فيه لغة غير مسبوقة، هو في رأي الراصدين للخط البياني لهذه العلاقة في الاشهر الأخيرة حدث متوقع، إذ أتى نتيجة خلافات وتعارضات مكتومة ظلت تتراكم في الظل لتصير تباينا وتظهيرا لاحتقان سياسي يكبر في العتمة فأضحى اقرب ما يكون الى قطيعة، وهو واقع كان يفصح لماماً عن نفسه في محطات عدة وفي زلّات لسان من هذا الطرف او ذاك. 

وفي رأي هؤلاء ان الكلام المثير للانتباه والذي اطلقه زعيم المختارة في آخر إطلالة له في الصحافة المكتوبة عن انه لم يعد له من صديق او حليف في كل الوسط السياسي سوى رئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي انطوى على مرارة قلّما نجدها في خطابه السياسي، هو واحد من الشواهد على هذا الواقع الخلافي واحدى العلامات المشفّرة التي اوحت لمن يعنيهم الامر ان جنبلاط هو في صدد رحلة مواجهة سياسية، او انه يحضّر لنقلة نوعية، فاختار اعلان الارتباط على هذا النحو بسيد عين التينة لاعتبارات تاريخية واخرى مستجدة، فضلا عن ان ثمة قاسما مشتركا يجمع القطبين وهو ان كلاهما اخفق في رهان كانا عقداه ضمنا ويهدف في حده الاقصى الى فرض نوع من الوصاية السياسية على الرئيس الحريري، او التشارك معه في حلف ثلاثي يجمعهم معا ويكون محور اللعبة السياسية في البلاد وبيضة قبانها. ومعلوم ان سيد عين التينة كان اكثر المفصحين عن امله بفوز هذا الخيار وابرز المنظّرين له ولاسيما من خلال مقولته الشهيرة التي اطلقها وقال فيها انه "يساند الحريري ظالما او مظلوما".

الاحساس بالغربة عن باقي مكونات المشهد السياسي الذي يتملك زعيم الاشتراكي هو في طواياه، في اعتقاد المصادر عينها، تعبير عن "خيبة امل" مما آلت اليه علاقته بزعيم "تيار المستقبل"، او مما يتحدث هو عنه في مجالسه الخاصة "مفارقة الحليف التاريخي له وإدارة الظهر لرحلة نضال طويلة ومريرة"، واختيار هذا الحليف الانزياح الى فضاء تحالفات وتفاهمات اخرى بدأت منذ ان أعلن الحريري قراره المدوّي وخيار التحدي القاضي بالمضي قدماً في خيار عون رئيساً مع ما تلا ذلك من تفاهمات ضمنية تفصيلية.

ثمة من يتحدث عن ان جنبلاط "نام" على رهان عنوانه العريض ان التفاهم الوليد الذي تبناه الحريري وانتج ملء الفراغ وعودته الى سدة الرئاسة الثالثة، لن يُكتب له عمر مديد ولن تلبث الامور ان تعود سيرتها الاولى، ومن ثم يعاد الاعتبار الى تفكير "التكتل الوسطي" الذي نظر اليه بري طويلا بعدما بشّر مراراً بدنو اجل انفراط عقد تحالفَي 8 و14 آذار وانتهاء صلاحياتهما وغياب الظروف التي استدعت استيلادهما واقتسامهما المسرح السياسي نحو عقد من الزمن.

وفي الانتظار اختار جنبلاط الركون الى نوع من الهدوء والمهادنة، مكتفيا بلعبة تسريب المواقف السريعة والعناوين العريضة عبر التغريدات اليومية، فيما عاد بري بعد فترة تهدئة لم تطل الى خيار المواجهة الشرسة والتصدي لطموحات الفريق الرئاسي ورمزه الابرز الوزير جبران باسيل، مستعصما بمكانته ومعتصما بحبل علاقته الوثقى بـ "حزب الله" ومتكئا على سند ان "التيار الوطني الحر" مضطر الى تحمّل هجماته وحملاته عليه نزولاً تحت وطأة اعتبارات وحسابات عدة.

تحرص مصادر قريبة من الحزب التقدمي الاشتراكي على عدم الخوض في الاسباب المباشرة التي افضت الى انفجار السجال الاعلامي بين الحريري وجنبلاط، وان كانت تلفت الى ان مصدر انفلات حبل هذا السجال هو من غير كليمنصو او المختارة، وان كلاهما اكتفى بالرد ولم يكونا البادئَين. وليس خافيا ان رفض هذه المصادر عدم المضي بعيدا في السجال يأتي اصراراً منها على امرين:

الاول، الرغبة في حصر مصدر الرد برئيس الحزب النائب جنبلاط دون سواه، إذ يختار بعناية ودقة التعابير والردود نبرة وزمناً.

الثاني، ان هناك رغبة مكتومة حتى في الحؤول دون اتساع وتيرة السجال وحجمه.

لذا فان المصادر عينها تعتبر ان الرد الاخير لجنبلاط كاف وواف ويخدم الهدف المرتجى، ومع ذلك فانه ليس في امكانها ان تنفي وجود اسباب اخرى متراكمة وتضرب جذورها الى مراحل سابقة، وهذا يعني ان "ازمة السجال" ليست وليدة الساعة. ومن الاسباب التي لا تفصح عنها المصادر ان ثمة شعورا قويا يتملك الحزب التقدمي فحواه ان الحريري العائد منذ ستة اشهر الى سدة الحكم لم يعد الحريري الذي ساروا واياه في رحلة نضال شرسة وطويلة طوال سنوات وأتت في اصعب الظروف، وادى فيها جنبلاط دور رأس الحربة في المواجهة. وبناء عليه فان الحريري أتى الى حيز السلطة والحكم بنهج مختلف، من ابرز سماته الجلية انه يتخلى طوعا عن كل ما له علاقة بالمرحلة الماضية وبمشروع سياسي كبير ومستقل يعتزم "التيار الازرق" السير على هديه والعمل لتحقيقه، وانه في المقابل يختار من أجل ضمان بقائه في الحكم تفاهمات جديدة.

لقد مارس جنبلاط سابقاً عمليات ارسال رسائل تذكيرية للحريري عسى ولعل تكون تحفيزا له، لكن زعيم "التيار الازرق" وعبر تصريحاته الاخيرة واستخدامه لغة من نوع "تبليط البحر" يؤكد بالدليل العملي انه ليس في وارد العودة الى الوراء، بل انه عازم كل العزم على المضي قدما في الخيار الذي بدأه قبل اشهر وكان بمثابة انقلاب وتحوّل في مسيرته.