زيارة عابرة لشارع الحمراء

محمد الحجيري

هذه رحلة عابرة في شارع الحمراء، شارع الثبات والتحولات. إنه شارع النساء والحانات والنراجيل والكحول والليل. مرآة أطوار المدينة والمكان الأكثر ثباتاً بين أماكنها الأخرى التي تزهو ثم يخبو بريقها. هنا صورة سريعة لشارع الحمراء في طوره الراهن.


قبل أسبوع زرت شارع الحمراء في الليل، بعد غيابي عنه أربع سنوات. بدا لي كأني عائد من سفر بعيد، أو هكذا أوهمني أصدقاء الأمس وهم يسألونني: أين كنت طوال هذه المدّة، ظننا أنك مسافر؟!
لم أغب كلياً عن الحمراء. لكن بيروت من دون سبب طردتني خارج حدودها، واقتضت ظروفي الاجتماعية أن أكون في أوقات الليل في بيتي الجديد خارج المدينة. حين أزور الحمراء مرات قليلة في الشهر، وفي أوقات النهار تحديداً، يكون الشارع مشغولاً بحاله وصخبه. أمرّ عابراً باحثاً عن كتب جديدة، لا أجدها في مكتبات قليلة يشكو أصحابها من أزمة القراءة والقراء، وخصوصاً بعد الأزمات العربية، وكثيراً ما أعود أدراجي من دون حصولي على ما أريد، إلا ما ندر من روايات حديثة تغيّر مزاجي. ذلك لأنني لا أملك ما يكفي من المال، فثمن كتابين أو ثلاثة، يربك موازنتي الشهرية، والغالب منذ مدة أنني أخذت أشتري بعض الكتب، فأقلّب القليل في صفحاتها وأضعها على رفوف المكتبة في انتظار أن يكسوها الغبار. ربما هزم الانترنت وطوفانه وهج الكتاب في يومياتي، وجعل علاقتي بالكتب قائمة على الحنين، اذ أشتريها كجزء من تقليد اكتسبته من الأيام الخوالي التي عشتها في الحمراء.
مذ غادرت الشارع قبل أربع سنوات صارت صلتي به وظيفية قائمة على علاقة بسيطة: الذهاب إلى بعض المكتبات. في الطريق ألمح بعضاً من أصدقاء الأمس وصديقاته بطرف عيني وأعود إلى سيارتي التي طالما وجدتُ صعوبة في إيجاد مكان لركنها. الكثير من أصدقاء الأمس بقي أثرهم في هاتفي الذي يحفظ أرقامهم، وأحيانا أحادثهم، وربما أتواصل معهم عبر الـ"فايسبوك" كأنه طاولة مقهى افتراضية، أو صار في جانب منه بديلاً من شارع الأمس.


النساء أشجار الشارع
في النهار، الزحمة سببٌ كاف للهروب من الحمراء. الحر الشديد سبب آخر للاستسلام للشعور بالخواء. لكن الرصيف يأخذ الزائر في رحلة بصرية من حيث لا يدري. إنها رحلة التفرج على الواجهات الزجاجية واستعراض وجوه النساء، مفاتنهن وحركاتهن، كأنك في غابة من النظرات المتبادلة. النساء أشجار الشارع، بحسب قول أحدهم. وحدهنّ، بثيابهن الساخنة والملتهبة والضيقة، وحدهنّ بأجسادهنّ الرقيقة الشفّافة، قادرات على سرقة الوقت في كل لحظة. نساء بألف لون لون، بألف انتماء وانتماء: من ستّات المنازل، إلى الخادمات الآسيويات والأفريقيات، إلى فتيات الهوى القادمات من أوروبا الشرقية، إلى السائحات الغربيات بثيابهن المتواضعة، من دون أن ننسى المنقّبات والمتشحات بالسواد والمراهقات بالشورت القصير حتى الردفين. لا تمل العين من الإلتفات إلى نساء الحمراء، سواء في الليل أو في النهار، في السهر أو في لحظات التسكع. إنهن من كل أنحاء لبنان والعالم، يلتقين في شارع واحد. نساء من كل الأعمار، وفي أزياء مختلفة تعكس وجوه ثقافات: من التي تكشف عن ثلاثة أرباع صدرها على الملأ، إلى التي ترتدي الثوب الشرعي أو التشادور، أو التي تختار الثياب الهندية والأفريقية والأميركية. إنهنّ أشجار شارع الفتنة والمرايا المتقابلة بامتياز، أو هنّ حياة هذا الشارع الذي يجمع بين الحداثة الغربية والأفكار القروسطية، أو يجمع بين التحرر والأفكار الفاشية، أو بين الدعة البورجوازية وهول المتسولين الذي لا يُحتمل. فالعابر في الحمراء يشعر بثقل المتسولين وهم يلاحقون الشخص الذي يشمّون رائحة المال في شكله وهندامه وهويته. الأنكى أن الذي يجلس في المقهى على الرصيف سيكون من الصابرين على كثرة الأيدي الممدوة والألسنة القائلة: "من مال الله، الله يخلّي ولادك، الله يخلّيلك هالصبية". لا يختلف الأمر مع ماسحي الأحذية الذين يُضجرون روّاد المقاهي والشارع من كثرة ترددهم وعرض خدماتهم، كأنهم متسولون يحملون صندوقاً من الخشب المتسخ.


شارع التحولات
العابر في شارع الحمراء يسعد بمشهد النساء، وتتعسه كثرة المتسولين والسيارات التي تتدفق كنهر بطيء. قد يجد العابر نفسه أمام مشاهد سوريالية كثيرة. يرى على الجدران شعارات غرافيتي داعمة للحراك الثوري في سوريا، وأخرى لمحاربة الاغتصاب، ثم يلمح صورة لحسن نصرالله على كشك رمضاني، أو يسمع أغنية للنجمة اللايدي غاغا أو لنعيم الشيخ الذي يصيح: "بذكر تحت العريشة لما شربنا..."، فيما شابان "متسولان" يعزفان موسيقى أغنية "ألف ليلة وليلة" لأم كلثوم على رصيف شارع عبد العزيز، ويفتحان علبة الكمنجة لمن يحب أن يضع المال فيها. وهذه عادة دارجة في المدن الغربية.
في الحمراء، قد يشتري المرء قطعة ثياب بثمن بخس، وقد يدفع ثمن قطعة أخرى مئات الدولارات، وقد يسمع كثيراً أصوات سيارات الإسعاف، وقد ينتبه لتكاثر النازحين السوريين الميسورين الذين يسكنون في شقق فخمة ويمضون الليل في حانات الحمراء غير معنيين بما يجري في بلادهم. هؤلاء يخالطون شباناً سوريين من صعاليك الثقافة والصحافة، إلى جانب لبنانيين من أمثالهم في الحانات نفسها.
تغيّر كل شيء في الشارع. ربما لا شيء تغيّر. تلك المعالم القديمة التاريخية اختفت أو تبدلت في شارع لا شيء فيه يبقى على حاله. منذ نشأ، بقي عرضة للتحولات والتبدلات لكنه حافظ على مدينيته نسبياً، بسبب قربه من الجامعة الأميركية في رأس بيروت. كان هذا الشارع قادراً على امتصاص بعض الظواهر الحزبية والميليشيوية والأهلية، او تدجينها، سواء التي غزته خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990)، أو الميليشيات التي حطّت رحالها فيه بعد غزوة 7 أيار 2008. لكنه لم يتحول شارعاً أهلياً. كل الذين يأتون إليه، ينصاعون لقوانينه، يغيّرون بعض معالمه ويتغيّرون. حتى أولئك الذين يعتبرون المقهى بديلاً من مصطبة الضيعة، يجدون ملاذهم في الحرية الفردية التي يؤمّنها شارع الحمراء.


غابة الحانات والمقاهي
بعد غياب أربع سنوات عن ليل الحمراء، كأن لا شيء تغيّر بالنسبة لي في جوهر هذا الشارع. ربما تغيّرت أشياء كثيرة، لكن لا يبدو أنها تعني لي الكثير، أو هي مجرد اكسسوارات عابرة. مشيتُ في الشارع من أوله إلى آخره. ثمة مشهد لم يكن مألوفاً من قبل. الشارع الذي كان عدد مقاهيه وحاناته الليلية لا يتجاوز عدد أصابع اليد قبل سنوات، صار كأنه حانة ومقهى كبيران. هناك حمّى اسمها الاركيلة، وحمّى أخرى اسمها الكحول الليلية المندلعة في الحانات في كل زاوية من الحمراء والمقدسي وحتى شارع السادات. بعض السوبرماركات أقفلت وتحولت مقاهي للأركيلة، كذلك أقفلت بعض المكتبات مثل "المعري" و"النجمة" لتفضيل الإنتعاش بالبيرة على متع القراءة. رقص المشاعر وجنونها في الليالي أكثر فتنة من المعرفة ومتابعة الكلمات الأدبية والشعر. ثمة روّاد مواظبون على الحمراء منذ عقود، وثمة مجموعات شبابية تأتي موسمياً بحكم سكنها قرب الجامعة الأميركية او الجامعة الأميركية اللبنانية. ثمة شبان يقصدون حانات الحمراء من أماكن بعيدة ومن الضواحي، حيث الخمر ممنوع والناس تحت الرقابة. حيث تحضر النساء تدبّ الحياة في الأماكن ويكثر الاستعراض والرغبة والحكايات وأحيانا الهبل. تلك هي معادلات اللقاءات على كؤوس الليل. "وما شغفي بالليل إلا لأنه..."، قال مرة أحد الشعراء، وسكت من غير أن يعثر على عجز لبيته الشعري.
بعد غيابي أربع سنوات عن ليل الحمراء، حصل أمر مهم هو أنه ازداد نبض الروح في الشارع من حيث تزايد عدد الرواد وأماكن وجودهم، وتفرق المثقفون في مقاه مختلفة، "ليناس" و"كوستا" و"كافيه بين" و"بريستول" و"تاء مربوطة" و"ستارباكس"، بعدما أقفلت مقاهيهم المعروفة مثل "سيتي كافية" و"كافيه دو باري" وقبلها "ويمبي" و"مودكا". الحق أن ذلك النوع من المثقفين في طور الشيخوخة والانقراض. من ظواهر الحمراء الجديدة تكاثر مقاهي الاركيلة وتوسعها إلى حدود غير مسبوقة. في غيابي عن الشارع افتتح "مسرح بابل" و"مسرح المترو" ونشط "مسرح المدينة"، واستمرت معظم صالات السينما أثراً بعد عين، لم يبق منها إلا اسماؤها. حتى مسرح البيكادللي لا يزال مقفلاً بعد احتراقه، ولم تكن وعود صاحبه بإعادة فتحه إلا ضرباً من ضروب الأمل، فهو كان ربط وعده بالوضع السياسي والأمني الذي تزايد سوءاً في السنوات الأخيرة.
بعض أكشاك الصحف صار يفتح في الليل، لكنه لا يبيع الصحف بل اللوتو والأسطوانات الموسيقية وأشياء أخرى. باعة الصحف أيضاً صاروا يشتكون فقدان الخبر قيمته. كأن قيمة الخبر بالنسبة لهم تقتصر على أن يكون مطبوعاً في جريدة. لم يعد باعة الصحف يفتخرون بمهنتهم. بعضهم تقاعد وبعضهم الآخر عرض كشكه للإيجار، بعدما كان جيل عتيق منهم قد أوصل أبناءه إلى كليات الطب والهندسة في أوروبا.
حياة شارع الحمراء وروحه هما جزء من رياح التحولات التي تحصل في بيروت والمناطق والبلاد المجاورة. فالسوريون حاضرون اليوم بقوة في الشارع. هناك سرٌّ ما يجعل الناس تنجذب إلى مكان بعينه. من يتذكر ظاهرة شارع مونو الذي شهد موجة أسطورية لحانات السهر والرقص قبل سنوات؟ سرعان من انطفأ وهجه وبريقه، وانتقلت الشهرة الى محلة الجميزة التي شهدت الموجة نفسها قبل أن تنطلق صرخة الاحتجاج من السكان الذين اجتاحت صرخات السكارى والموسيقى الصاخبة غرف نومهم. أيضاً شهد وسط بيروت موجة ازدهار قبل أن تفتك به التظاهرات والاعتصامات والانقسامات السياسة والطائفية وغيبة السياح العرب، ليتحول مباني شبه جامدة وبلا حياة. لوحظ كيف اندفع الروّاد للجلوس في "الزيتونة باي" عند الكورنيش البحري. على هذا يبدو أن شهرة الأماكن في لبنان مثل شهرة نجوم الفن في صعود وهبوط. في كل مرة نشهد بريقاً في مكان ما، سرعان ما يأفل. ثمة حقبة عابرة كان شارع المكحول قرب الجامعة الأميركية صاحب بريق، ومثله الكسليك في جونيه، ولاحقاً السوق القديم في البترون. لكن بين هذه الأسماء كلها يبدو شارع الحمراء صاحب نكهة خاصة، دائمة ومتحولة، كأنه يتقبل أو يستوعب المراحل والتحولات ويبقى.
بعض الأشخاص في الحمراء لا يزالون كما كانوا يوم تركت الشارع قبل أربع سنوات. أبو علي الصرّاف لا يزال يحمل كيس المال ويجول على المحال التجارية. المعلم كاسبار يدخّن السيجار ويقرأ الجريدة اللبنانية ويكتب المقالات الأرمنية في المقهى. ثمة امرأة عجوز لا تفارق ابنها الشاب وتجلس معه في "ستارباكس". يُروى الكثير من الحكايات التي تقول إن الأم فقدت عائلتها في الحرب ولم يبق لها سوى ابنها الوحيد الذي لا تتحمل الابتعاد عنه للحظة. الفتاة ذات الشفتين العذبتين الورديتين والتنورة القصيرة والفخذين الساحرتين، تجلس على كرسي في مقهى وتقرأ في كتاب أجنبي. أيمن لا يزال يحتفظ بزجاجة البيرة...
بعد غيابي أربع سنوات عن ليل الحمراء، عدت إلى الشارع قاصداً حضور مسرحية "بيروت - الطريق الجديدة" ليحيى جابر، وزياد عيتاني. قبل المسرحية كان عليّ أن أزور أكثر من مقهى وحانة. في الماضي كان الشبان يجلسون في مقهى "المودكا" قبل أن يتوزعوا على حانات المدينة القليلة. لكن انقلبت اليوم الأمور رأساً على عقب. لم يعد ثمة مكان مخصص لأحد. يمكن القول نسبياً إن بعض المثقفين يجتمعون في "كافيه بين" قبل انتقالهم إلى زاروب "استرال" وأماكن أخرى.


زاروب "الاسترال"
في المساء جمعتنا اللحظة في أحد حانات زاروب "استرال". كنا نتسامر عن أحوال الفراق واللقاء والسياسة و"القضية الفلسطينية" والحب والكراهية ومستقبل لبنان. خبر عاجل يفيد عن إصابة ستة أشخاص كانو يحتفلون بعيد الجيش اللبناني في وسط بيروت تحت شعار "الشعب يريد الجيش". لا أحد يهتم للخبر. في زاروب "استرال" الذي صار معلماً حديثاً لهواة السهر وقرقعة الكؤوس، أنماط جديدة من الخدمات (أو السرفيس). بعض النادلات من الجنسية الأثيوبية. هناك على إحدى الطاولات يجلس ثلاثة شبان يستعرضون في الحديث عن علاقاتهم بالنساء الأثيوبيات. يقول أحدهم إنه كان ينتظر إحداهن كي تأتي لتنظف مكتبه ويدفع لها أجرها وينام معها. لكنها بعد سفرها إلى بلادها وعودتها، لم تعد توافق على ذلك، تبدلت أحوالها فجأةً وبدأت تنبذ الجنس. الشخص نفسه يقول إن الخادمة الأثيوبية التي في بيته ترفض أن تقبّله حتى لو اختلى بها طوال النهار. وهو في تلك السهرة كان يراقب مؤخرة إحداهن.
في زاروب "استرال" الذي يشبه الأسواق القديمة، كان الفنان التشكيلي محمد شمس الدين يخبرنا عن حبّه لشارع الحمراء لأنه شارع مختلف عن كل المناطق في بيروت وغيرها. هو في معظم الاوقات يأتي من بلدته الجنوبية ليمارس تزجية الوقت في هذا الشارع.
يتذكر شمس الدين أنه كان في الخامسة عشرة من عمره، حين وصل الى الشارع. اشترى علبة تبغ وجلس في مقهى "هورس شو"، فطرده النادل بسبب صغر سنه. منذ تلك اللحظة عقد قرانه على هذا المكان، يذهب بعيداً ويسافر ثم يعود إليه.
شمس الدين لا يزال منزعجاً من قفل محل "شي اندره" في الحمراء. ذلك المكان الصغير، التاريخي والأسطوري، الذي كان يستضيف مشاهير العالم من جوني هاليداي الذي أتى الى بيروت ومنعه كمال جنبلاط من الغناء بسبب "جرأته"، الى المغني الأرمني شارل أزنافور وملكة جمال الكون جورجينا رزق. كانت حانة "شي اندره" لصاحبها الأرمني تضج بالروّاد، ولم يبق منها الآن سوى صورها والذكريات، بعدما أقفلها مالكها الجديد.


فاروق
مذ غادرت شارع الحمراء، يائساً من قدرتي على البقاء في مكان أحببته وكرهته في آن واحد، منذ ذلك اليوم صار حضوري نادراً في الشارع. لم أعد أتآلف مع الضجيج والسيارات. في المرات القليلة التي أزور الشارع نهاراً، ألتقي فاروق الذي صار أكثر حضوراً مني في الشارع، بل أكثر حضورا من الجميع في شارع يطل على أفق بعيد. يجلس في المقهى كل يوم وكل ساعة، في الزاوية، في ظل الشجرة الرصيفية. يجلس كما لو أنه على موعد يوميّ مع الأصدقاء والعابرين. يضع نظارة "رايبان" ويضحك كشخص يحب الحياة. هناك كلما رأيته في النهارات المتوترة المتقلبة، أتخيل كأس العرق البلدي في يده، وأمامه كانون الجمر وقربه خروف مسلوخ معلّق على شجرة.