مرايا نثرية

فلسطين - نمر سعدي

أجملُ ما في الجوائز الإبداعية تلك التي تأتي بلا انتظار، وتذهب لمن هو خارج توقعات الفوز بها. هي لفتة مهمِّة للمبدع البعيد عن دوائر أضوائها الذهبية، ورسالة غامضة أو مفهومة ضمنا لهؤلاء الذين انتظروها بلا جدوى، حتى شارفت أعمارهم الانطفاء. 

***

صوتها وهو يلقي قصائدي كانَ عبق فلسطين وزهورها وأشجارها السماوية وخريفها الملوَّن الذي لم أبرأ من حنيني اليه بعد، جمعَ فلسطين كلّها في هذه البانوراما الخريفيَّة الشعرية بكل بهاء وضوء وألق منساب.

***

في الزمن الافتراضي، من المستحيل تصفية هذه الأطنان من النصوص الفايسبوكية لاستخراج ذرة ذهب شعرية واحدة. هذا الشيء يشبه البحث عن محارة في محيط. ولأن الفارقَ ما بين مبدعي الفايسبوك ومدّعيه هو حرف واحد لا غير، أصبحَ المبدع الحقيقيُّ كمن يشكّ في ذائقتهِ

***

رحيل الروائي والمترجم العراقي المبدع حسين الموزاني وحيداً في منفاه البرليني، خسارةٌ لا تقاس ودمعةٌ لا تجفّ. خلال معرفتي القصيرة به كان مثال المثقّف الحقيقي الذي لا يعنيه لغوُ الكلام ولا الجدلُ العقيم لفرط انشغالهِ بالبحث عن المعنى الأعمق والأكمل والأنقى للجمال والابداع والكتابة. كأن لا نصيبَ للمبدعين في هذه الحياة سوى القلق الوجودي العظيم والوحشة الأبدية والرحيل في صمتٍ وحزنٍ بعيداً عن تراب الوطن الأم.

***

لا أعرف كيف من الممكن أن يكون شاعرٌ له تاريخهُ ومنجزهُ، واسمه مجرَّد شبِّيح بغيض؟ على أساس أن جوهر الشعر هو الإيمان بالحريَّة والمحبة والجمال والقيم الإنسانية العليا، هل يجد في هذا الخراب السوريالي الجحيمي الكامل الذي يطبق على الشام كلِّها ما يُقنعهُ كـ"شاعر" أو كـ"مثقف" أو كـ"إنسان"؟

***

 ليست القصيدة سوى لعنةٍ جميلة، وشاعرٌ لا يرتضي لعنته لا يُعوَّل عليه.

***

هل سأشفى من حبِّ قصائد الشاعر السعودي الكبير علي الدميني؟ لا أظن. قبل عشرين عاماً تتبعت هذا الشاعر المبدع بأنفاس محبوسة، جذبتني قصيدته بصوتها السحري كما جذبت السيرينات عوليس. منذ قراءتي شهادته المعنونة "لستُ وصيَّا على أحد"، في كتاب "أفق التحولات في القصيدة العربية" وقد ضمَّ شهادات شعرية لأبرز الشعراء العرب وذلك في منتصف صيف 2001، كان الدميني أحد أجمل آبائي الشعريين وأحد الشعراء الأفذاذ الذين تأثرت بهم. كان صوتهُ قادرا على الاحتفاظ بأصالته ونقائه ونصاعته وألقه الأسطوري حتى لو تردَّد في قلبي مئات المرَّات. وذلك هو الإمتحان الذي يجب على القصيدة أن تجتازه في طريقها إلى الجمال الصرف والمجاز الصافي. قصيدتهُ انتصار للحب، للحريّة، للإنسانية. قلبي الآن نجمة مضيئة وليس مجرَّة فحم مطفأة. قلبي نجمة مشتعلة، وشبه ممسوسٍ بغبارِ الجمال الفضيِّ، لأنَّ يد هذا الشاعر المتفرّد هي التي حملت أحد دواويني برماد غواياته السريِّ وبعثرته في وجه الشمس.

***

يتمنّى الشاعرُ أن لا يتبدّى له خسرانُ الشعر المبين في صراعه اليوميِّ مع المادة.

***

طريقُ الشعر محفوفةٌ بطمأنينة القلق الجميل.

***

قد تمتدّ يدُ أحدهم لمحو إحدى حبيباته القديمات من على سبُّورةِ ذاكرته، بعد أن تسوِّل له نفسه نعمة النسيان. ولكن أن يفعل شاعرٌ هذا مع إحدى ملهماته الأثيرات، فذلك هو يأسُ الشعراء الأعمق.

***


يحدث أن يتوقّف شاعرٌ عن الكتابة أو يكتب صمته الأبديَّ البليغ كما فعل رامبو. بمنتهى البساطة. لا من أجل شيءٍ وليس لأنَّ أحلامه انهارتْ، أو لأنَّ حبيبةً أو فكرةً هجرته، بل لأنه سقط في عجزٍ روحيٍّ عن تحويل ما في الحياةِ من أشياء لا تحصى إلى شعر. العجزُ أحياناً موتٌ مجازي، والشاعرُ يشبه تلك الآلة السحريَّة التي تحوِّل القبح إلى جمال والقوَّة إلى هشاشة والأرض إلى سماء.

***

الأمُّ والشعر. هل من المصافاتِ أن يتقاسما اليوم نفسه؟

رغم كلّ شيء كانا أجمل اختصارات الحياة، حلمَ البدايات وشغف المشتهى.

***


أن أُصدرَ ديواناً ولا يُكتب عنه خبرٌ في الصحافة الأدبية أمرٌ طبيعيٌّ جدَّاً لي ولا يزعجني إطلاقاً. وهو أفضل بمليون مرَّة ممَّا يقع فيه الكثيرون من سقطات قويَّة. كأن يكتب أحدهم خبراً عن صدور ديوانه الجديد واصفاً نفسه بـ"الشاعر الكبير". من المستحيل أن أصدِّق شاعراً يصف نفسه بأنه "شاعر كبير"، حتى لو كانَ بابلو نيرودا ينطقها أمامي. كلمة شاعر هذه تشبه علاقةً سريَّةً بيني وبين قلبي، لا علاقةَ للآخر بها، وهذا ليس تواضعاً ساذجاً بل ثقةٌ مطلقةٌ بقصيدتي.