بشارة مريم العذراء

رواية بشارة الملاك جبرائيل لمريم العذراء بأنّها ستلد ابنًا وتسميه يسوع نقرأها في إنجيل لوقا. إنّها رواية لحدث يفوق تصوّر الإنسان: فتاة عذراء تلد طفلاً من دون مباشرة رجل. هذا ما لم يحدث في تاريخ البشريّة منذ أن خلق الله آدم الإنسان الأول في بدء الخليقة خلقًا مباشرًا. لذلك دعا بولسُ الرسول يسوعَ آدمَ الجديد. فبتكوين يسوع في أحشاء مريم العذراء بدأت مرحلة جديدة من تاريخ البشريّة. عندما ظهر الملاك لمريم قال لها: "السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الربّ معك". فاضطربت مريم لهذا الكلام وتساءلت ما عسى أن يكون هذا السلام. فقال لها الملاك: "لا تخافي، يا مريم، فإنّك قد نلتِ حظوةً عند الله. وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا، وتسمّينه يسوع. إنّه سيكون عظيمًا، وابنَ العليّ يُدعى. ويعطيه الربّ الإله عرشَ داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولا يكون لملكه انقضاء". فقالت مريم للملاك: "كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟" فأجاب الملاك وقال لها: "هو الروح القدس يحلّ عليكِ وقدرة العليّ تظلّلكِ. لذلك فالمولود منك قدّوسٌ وابنَ العليّ يُدعى" (لوقا 28:1-35).


في هذه الرواية أراد الإنجيليّ لوقا في بدء إنجيله أن يُعرّفنا عن شخص يسوع الذي سيتكلّم عنه في الإنجيل كلّه، ويشرح لقبيه "قدّوسًا وابنَ العليّ"، أي ابنَ الله. فالملاك يقول لمريم إنّ الروحَ القدس هو الذي يحلّ عليها، لذلك "المولود منها هو قدّوس". ويُدعى "ابنَ الله"، لأنّه وُلِد من دون مباشرة رجل، فليس له أبٌ من البشر، بل الله هو أبوه. كلّ الناس يأتون من رجل وامرأة، ما عدا يسوع الذي هو وحده "يأتي مباشرة من الله". وهذا ما يبيّنه أيضًا يوحنا في مدخل إنجيله، حيث يعود إلى "البدء"، فيدعو يسوع "الابن الوحيد" لله. واللفظة اليونانيّة الذي يستعملها هنا (monogenis) تعني "الوحيد الذي لا مثيل له". فيسوع هو "الابن الوحيد" لله، لأنّه وحده "الكلمة الذي كان في البدء لدى الله" (يوحنا 1:1)، وقد "صار بشرًا، وسكن بيننا مملوءًا نعمة وحقًّا. وقد رأينا مجدَه، مجد ابنٍ وحيدٍ آتٍ من الآب" (يوحنا 14:1).
"ابنُ الله" هذا هو لقب يسوع الأساسيّ الذي به يتميّز عن سائر الأنبياء، الذين كلّمنا بهم الله "مرارًا عديدة وبشتى الطرق"، كما تقول الرسالة إلى العبرانيّين، وتضيف أنّ يسوع هو وحده "الابن الذي جعله الله وارثًا لكلَ شيء، وبه أيضًا أنشأ العالم، الذي هو ضياء مجده وصورة جوهره وضابط كلّ شيء بكلمة قدرته" (عبرانيّين 1:1-3).
إنّ بتوليّة مريم في ولادتها يسوع يؤكّدها أيضًا إنجيل متى، حيث يقول الملاك ليوسف خطيب مريم: "يا يوسف ابنَ داود، لا تخفْ أن تأخذَ إليكَ مريم، زوجتكَ، فإنّ المولودَ فيها إنّما هو من الروح القدس. وستلد ابنًا فتسمّيه يسوع لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى 20:1-21). هذه العقيدة هي بدون شكّ عقيدة مريميّة، أي تختصّ بشخص مريم العذراء، وفي هذا هي عقيدة مشتركة بين المسيحيّة والإسلام، إذ ورد ذكرها في القرآن في سورة مريم، حيث تقول مريم للملاك، عندما بشّرها بأنّها ستلد ابنًا: "أنّى يكون لي غلامٌ ولم يَمْسَسْني بشر ولم أكُ بغيًّا"، فيجيبها الملاك: "كذلك قال ربُّكِ هو عليّ هيّنٌ، ولنجعلَه آيةً للناس ورحمةً منّا وكان أمرًا مقضيًّا" (سورة مريم 20-21). لكنّ هذه العقيدة هي قبل ذلك في المسيحيّة عقيدة مسيحانيّة، أي تختصّ بشخص يسوع المسيح. وهذا هو المعنى الأخير لبشارة الملاك لمريم: "إنّ الذي يولَد منها بشكل بتوليّ هو "يسوع المسيح ابن الله المخلّص". الإسلام يكتفي في هذه الرواية بإعلان بتوليّة مريم العذراء في ولادتها يسوع، تلك المعجزة التي بها ظهرت قدرة الله. ولا يستخلص منها، كما تفعل المسيحيّة، أنّ يسوع المسيح هو "ابن الله المخلّص"، وأنّ جميع الناس مدعوّون إلى أن يصيروا أبناء الله من خلال إيمانهم بيسوع ابن الله، "لتكون لهم الحياة باسمه"، كما يقول يوحنا في نهاية إنجيله : "وصنع يسوع أمام التلاميذ آيات أخرى كثيرة لم تُدوَّن في هذا الكتاب. وإنّما دُوِّنت هذه لتؤمنوا بأنّ يسوع هو ابن الله، فتكونَ لكم، إذا آمنتم، الحياةُ باسمه" (يوحنا 30:20-31). هنا يكمن الفرق بين المسيحيّة والإسلام.
لكن لا مانع من أن يكون عيد البشارة عيدًا وطنيًّا يجمع المسيحيّين والمسلمين حول مريم العذراء التي ولدت يسوع وهي "لم تعرفْ رجلاً"، كما يقول الإنجيل، أو وهي "لم يَمْسَسْها بَشر"، كما يقول القرآن. ففي كلتا الروايتين، قدرة الله هي التي كوّنت يسوع في أحشاء مريم. وهذا يجعل المسيحيّين والمسلمين يرون في بشارة مريم العذراء طريقًا للإيمان معًا بالقدرة الإلهيّة، التي تستطيع أن تصنع ما لا يستطيع إنسان أن يصنعه، وتجمعهم في وحدة وطنيّة مبنيّة، ليس فقط على أساس وطنيّ، بل أيضًا على أساس دينيّ لا يتزعزع.