"غسان تويني الحاضر أبداً"

هل يُشكر الأهل؟ نعم يُشكرون ويقدّرون على تعبهم.
هكذا أتوجه بالشكر الى البلمند. عائلة البلمند، التي كان غسان تويني في عدادها، فكان من مؤسسي هذه الجامعة ورئيسها الاول.
وغسان تويني كما عنوان هذه الندوة حاضر أبداً، في كل ما عمله وقام به وبناه وكتبه وسعى الى انجاحه.
تتحدثون ربما عن غسان تويني الصحافي والفيلسوف، والكاتب والمفكر، والديبلوماسي والسياسي، وربما يعرفه كثيرون أكثر مني في هذه المجالات لما كانت تربطهم به من علاقات غاصت في عمق تلك الامور، ومعاصرة للاحداث والتحديات التي عاشها وعشتموها معه. لذا اتحدث عن غسان تويني الانسان والجد والوالد.
كان غسان تويني، وكنت أنا. وكنت بوجهين. أو هكذا تراءى له ان يراني. كنت نايلة، حاملة اسم الابنة التي فقدها باكراً (عمتي)، وكانت أول العنقود، وأول حبة ايضاً في سبحة الغياب والألم والفراق. فقد نايلة باكراً، وشعر مع جدتي ناديا، بعقدة ذنب حيالها، خصوصاً ان جدتي كانت مريضة أيضاً بالسرطان. كان يراني تعويضاً من السماء، لذا حظيت باهتمام خاص. كنت أيضاً نايلة الحفيدة، إبنة جبران البكر وحامل اسم جده. ويقول المثل "ما أعز من الولد إلا ولد الولد".
وكنت الحفيد الأول في المنزل والعائلة. ولم يأت بعدي صبي ينافسني في حمل إسم العائلة. لذا كانت محبتي خاصة جداً لدى غسان تويني. أجلسني على كرسيه، وصورني الى مكتبه، وبين كتبه. ورافقني في كل مراحل حياتي. كان يهديني كتاباً، ويلاحقني لكي اقرأه، والخص افكاره الاساسية. أرادني ان أكون على صورته. وقد استفدت من حكمته ونضجه كثيراً، كما استمددت روح الثورة والنضال والمواجهة من والدي جبران.
كان غسان تويني يضعف أمامي. وفي الوقت نفسه يقسو عليّ. لا يريدني ان أكون إلا ما يراه مناسباً لي، وان أبلغ أعلى درجات الفهم والتحليل. ولم ارتقِ معه الى مستوى الفلسفة التي بلغها سواء بإدراكه تفاصيلها أو في تلك الفلسفة التي بناها من عمق الاعمال والتجارب التي قويَ عليها زمناً قبل ان ترديه في نهاية المطاف.
شكل غسان تويني الجد الحقيقي، اذ كان يدافع عني باستمرار، كما يفعل الاجداد والجدات، في حين انه لم يكن سهلاً في التعامل مع ابنائه، وتحديداً مع جبران الذي عاش الثورة في المنزل قبل المجتمع.
ولعب غسان تويني دور الوالد بعد اغتيال جبران. أو لنقل حاول ذلك قبل ان تخور قواه. احتضننا في ساعة الشدة يوم بدأ يفقد الأمل، وتضعف لديه الرؤية التي طالما تميز بها. كنا نشعر، انا واختي ميشيل، بإرباكه، وخوفه علينا وقلقه على مستقبلنا. ولم يكن يريد الاعتراف بذلك.
لم يتقبل فكرة مقتل جبران، إلا بعد ثلاث سنوات على تلك الواقعة الأليمة. يومها كتب له "حبيبي جبران" وكان يفصح عن مشاعره للمرة الأولى. ومنذ ذلك الاعتراف العلني بدأ يهوي. وكانت قلوبنا تنكسر. هل كٌتب لغسان تويني ان يجلس على كرسي متحرك؟ أما صمته فأكثر ما يؤثر، لأننا لم نكن ندرك ما اذا كان عجزاً أو فعلاً إرادياً يواجه به الواقع.
وحتى لا تكون مداخلتي بكائية، لا بد من تسليط الضوء على جوانب أخرى في حياة غسان تويني. فهو العاشق باستمرار والمقدر للجمال، والمراهق في الحب، وفي افتعال النكات، وأحياناً في زرع الفتن المحببة بين الزملاء. كان يفصح عن أشياء كثيرة ترسم ابتسامة على الوجوه.
غسان تويني كان راعي المواهب، والمنفتح على كل جديد، والمتابع لأدق التفاصيل. وكم من مشروع صحافي أخرجه جدي الى الضوء، وكم من مشروع ترميم في المتاحف والكنائس عمل لانجاحه ليل نهار. وكم كتاب لم يكن ليرى النور لولا جرأة غسان تويني في "دار النهار". وكم من جامعة ومدرسة ومؤسسة تأسست أو نمت على يديه.
اسمحوا لي يا سادة ان أقول لكم إن غسان تويني، المدرسة في الصحافة والديبلوماسية وفي عالم النشر، كان متميزاً في كل ما فعله. والأهم من كل ذلك انه كان في عمقه انساناً حقيقياً. كثيرون ممن عرفوه لم يتمكنوا من دخول عالمه الخاص هذا، لانه كان يتعمد ان يخفي ضعفه الانساني، وان يواجه الحياة بصلابة وكبر.

* مداخلة نايلة تويني في الندوة التي اقامتها جامعة البلمند الخميس الماضي تحت عنوان "غسان تويني الحاضر أبداً".


nayla.tueni@annahar.com.lb
twitter:@naylatueni