سياسة التحوط الأميركية وهارون الرشيد المعاصر\r\n

محمود حدّاد

تبدو السياسة الأميركية وكأنها مع الشيء وضده في آن واحد. في مصر، هي مع الاخوان المسلمين وشرعية الرئيس محمد مرسي وهي أيضا غير معارضة لجبهة الانقاذ بقيادة محمد البرادعي وكذلك على أفضل علاقة مع الجيش بقيادة الفريق أول السيسي. وهي لا تعرف من أطلق النار على المتظاهرين أمام قصر الاتحادية في القاهرة، ولا تزال تدرس ما إذا كان الذي جرى في مصر أخيراً انقلاباً عسكرياً أم ثورة شعبية. وهي مع ديموقراطية صناديق الانتخاب التي أتت برئيس إخواني، لكنها لن توقف مساعداتها المالية والعسكرية السنوية للقوات المسلحة المصرية التي انقلبت عليه. والناطقان الرسميان باسم البيت الأبيض ووزارة الخارجية يصرحان بالقليل لأن الرئيس أوباما، حسب الصحافة الأميركية، مشغول بلعب الغولف. أما السناتور كيري، وزير الخارجية، فمهتم بصحة زوجته المريضة كما أنه في الوقت نفسه يقوم برحلة صيد بحرية للترفيه.


العلاقات الأميركية الملتبسة ليست محصورة بمصر وليس فيها جديد بالضرورة. فواشنطن تدرس، ومنذ شهور، الوضع في سوريا وما اذا كانت دمشق قد استخدمت غاز الأعصاب القاتل والممنوع دولياً ضد مواطنيها المدنيين أم لا. وهي لم تستطع الوصول إلى نتيجة مقنعة تبني عليها سياسة واضحة مع النظام أومع المعارضة لا يؤثر فيها إعلانها بأنّ نحو 100 الف ضحية سقطت خلال قيامها بأبحاثها العلمية وتجاربها المخبرية. وهي تعلن في الصباح أنها ستزود المعارضة السورية بأسلحة نوعية لتحقيق توازن عسكري على الأرض قبل انعقاد مؤتمر جنيف الذي يؤجل باستمرار لبحث الوضع السوري، ثم توضح في المساء أنها لن تفعل إلا اذا قامت هذه المعارضة بتطهير صفوفها من إسلاميي "جبهة النصرة" وبدء حرب أهلية عملياً داخل صفوفها.
قبل ذلك في العراق كانت اللعبة قد بدأت باكراٌ أثناء الحرب الإيرانية – العراقية في الثمانينات فكان البنتاغون يزود بغداد بالسلاح الأميركي وضباط وكالة الأمن القومي يباركون خطة " إيران- كونترا" لتزويد طهران بالسلاح الإسرائيلي. وعندما سأل أحدهم هنري كيسينجر: "هل مصلحة واشنطن مع نصر إيراني أونصر عراقي؟" جاء جوابه شفافا وصريحا: "مصلحتنا أن يخسر الطرفان!".
أما في لبنان فالمتابعون يعرفون أن عواطف واشنطن تميل نحوقوى 14 آذار أما مصالحها فتسمح بشيء من الود غير الصريح جداً مع قوى 8 آذار. وهي تقبل بدور للجناح السياسي للأحزاب المسلحة مع أنها تعتقد أن على هذه الأحزاب نزع سلاحها والاصطفاف حول الدولة وجيشها الرسمي. وهي مع تعزيز الجيش اللبناني لكنها لا تفكر بتزويده سلاحاً فعالاً قد تعترض عليه إسرائيل.
بالطبع، هناك تفسير بسيط لما يبدوللبعض أنه تناقضات غير منطقية. وهوتفسير ديموقراطي يردده الرسميون الأميركيون إذا ما سنحت لك الفرصة بالتحدث إليهم. يقول هذا التفسير إن علينا التنبه لوجود أكثر من مركز لإتخاذ القرار في الديموقراطية الأولى الواسعة في الولايات المتحدة. فسياسة البنتاغون ليست بالضرورة متطابقة مع سياسة الكونغرس وهي أيضا مختلفة شيئاً ما عن تصورات البيت الأبيض. والديموقراطيات بطيئة القرار وإن كانت بعيدة النظر وهي غير الديكتاتوريات السريعة القرار وإن كانت قصيرة النظر.
الا أن للتاريخ تفسيرا آخر عندما نجد أن لسلطة عموم العالم ( أومعظمه، وباستثاءات لا تغير القاعدة) وللقوة الأكبر فيه حصة عند اجنحة كل موالاة واجنحة كل المعارضات. عند القيادات العسكرية وكذا القيادات المدنية. عند اليمين المتطرف وعند اليسار المعتدل على امتداد المعمور. فلدى الولايات المتحدة "صندوق تحوط سياسي وعسكري"(Hedge Fund) تستثمر بواسطته بقدر ما تراه مناسباً في كل التيارات أكانت جزءاُ من أحزاب المجتمعات السياسية أم منظمات المجتمعات المدنية أم مراكز القوى العسكرية. أي أن لها - حسب التعبير الشعبي - "قرص في كل عرس".
ولا ندري كيف تدار هذه السياسة بالضبط، لكنها قد تجد تفسيراُ أوشبه تفسير عند هارون الرشيد عندما كان يدير، هوالآخر، امبرطورية واسعة. فقد نظر الخليفة العباسي مرة إلى سحابة مسرعة عابرة فخاطبها قائلاٌ: "إذهبي وأمطري أنىّ شئت فسيأتي إلي، على كل حال، خراجك!".


استاذ جامعي