استحقاقات مالية واستدانة وعجز يتخطى الـ 5 مليارات دولار سنوياً... فمن المنقذ؟

تثير نقاشات الاقتصاديين أسئلة كثيرة حول سبل الحل والإنقاذ لأزمات البلاد المالية، بعدما سجل الدين العام أكثر من 74 مليار دولار، وتخطى عجز الموازنة الـ5 مليارات دولار سنوياً، فيما الاستحقاقات المالية على الدولة اللبنانية التي ينبغي تسديدها في السنة المقبلة 2017 تتجاوز الـ8 مليارات دولار، علماً أن سداد ما تبقى من استحقاقات للسنة الجارية، أقفله مصرف لبنان أو أنهى الجزء الأكبر منه، عبر ما سمي بـ"الهندسة المالية" التي اضطر معها الى الاستدانة والاقتراض من المصارف لتعزيز موجوداته المالية بسبب الأوضاع الاستثنائية التي عاشها لبنان أخيراً.
وبلغ النقاش ذروته ومعه تساؤلات كثيرة بعد الموقف الذي أعلنه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حين قال أمام وفد من الهيئات الاقتصادية زاره أخيراً إنه لا يجوز أن تبقى الليرة اللبنانية مدعومة بالدين الذي بلغ حجماً كبيراً، فتحسين وضعها يكون بالإنتاج، والاقتصاد هو الداعم الأول للعملة اللبنانية. واستذكر اقتصاديون وفقاً لهذا الكلام مرحلة سابقة، طغت عليها سياسات مالية محددة اعتمدت على الاستدانة لدعم المالية العامة وتثبيت سعر صرف الليرة، رغم أن وجهات نظر أخرى كانت ترى في ذلك أخطاراً على لبنان، إنما هذه السياسة لا يتحمل مصرف لبنان وحده مسؤوليتها.
لا شك في أن الاستحقاقات المالية الداهمة والخطرة على لبنان، يضاف اليها انخفاض النمو الى 1 في المئة للسنة 2016، وتراجع تحويلات اللبنانيين من الخارج، كلها عوامل لا تسمح اليوم بتغيير جذري للسياسات المالية التي اتبعت منذ النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، وهي المرحلة التي فتحت نقاشاً استمر حتى بداية الألفية حول أي سياسة اقتصادية ومالية يمكن أن تجنّب لبنان الاستدانة التي تراكم الدين العام. فأي تغيير يحتاج الى مرحلة نمو واستقرار تسمح بمناقشة هادئة لمستقبل الاقتصاد بهدف الحفاظ على سلامة النقد واستقراره من غير طريق الاستدانة المطلقة. قبل ذلك على المعنيين بالملفين المالي والاقتصادي أن يفكروا في طريقة سداد المترتبات المالية على لبنان، ليس من طريق الاستدانة، بل في إعادة الاعتبار لعمل المؤسسات ثم الإنفاق مرتبطاً بالحاجات الاقتصادية الفعلية، وتطبيق ما ورد في خطاب القسم عبر ربط الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بإرساء نظام الشفافية ومواجهة الفساد.
وإذا كان من توجه لتغيير السياسات القائمة، فذلك سيفتح على احتمالات تتعلق بدور مصرف لبنان الراهن في تثبيت سعر صرف الليرة، رغم أنه يؤخذ عليه أخيراً توسعه في هندساته المالية والاستدانة الواسعة، علماً أن هذا الأمر أعطى المصارف اللبنانية هامش أرباح واسع. لكن للعلم أن اقتراض الدولة الواسع منذ نحو عقدين ونيف هو سياسة تعني الحكومة ومجلس النواب ووزارة المال أيضاً، فيما دور مصرف لبنان الذي اعتبر لسنوات طويلة أنه حافظ على قيمة الليرة كان يتولى ترتيب إصدارات الدين، واضطرته الظروف الى أن يتدخل في السوق على نطاق واسع خلال مراحل الأزمات الكبرى، وفي التوترات الأمنية والسياسية، ولذا كان يعمل دائماً على تعزيز موجوداته كي يتمكن من مواجهة كل الاحتمالات.
يستعيد كلام الرئيس عون نقاشات سابقة، ويسلط الضوء على سياسات مالية من خلال تكبير الاقتصاد الذي وحده يسمح باستقرار الليرة، وهذا أمر يأتي في ظروف طبيعية، وهو في الأساس قاعدة للسلطات المالية والنقدية في الوضع الطبيعي لأي بلد. وإذا كان لا يوجد تصور واضح كبديل لوقف الاستدانة، فإن كل ما يمكن عمله بعد تأليف الحكومة هو إعادة إصدار الموازنة العامة وتحديد الإنفاق، علماً أن اقتصاديين يذكرون بالخلاف الذي نشأ قبل سنوات حول إصدار الموازنة ربطاً بالمبالغ التي أنفقت من خارجها، أي مبلغ الـ11 مليار دولار. فلو كانت الموازنة تسيّر أمور الانقاق وتحدد الإيرادات لما كان العجز قد وصل الى مستويات خطيرة. وإصدار الموازنة خطوة أولى تمر من خلالها كل الاجراءات المالية والاقتصادية، ووضع سقف للإستدانة وخفض العجز يؤدي الى وضع أفضل يسمح بنقاش هادئ للسياسات المالية والنقدية الحالية.
وبينما يرتفع الدين العام وخدمته الى مستويات قياسية وعجز الموازنة السنوي بدأ يتخطى الـ5 مليارات دولار، وفي وقت تبدو الاستحقاقات المالية داهمة، يطرح سؤال، من يكون المنقذ؟ إذ لا يمكن وفق اقتصاديين تغيير السياسات المالية والنقدية بقرار، فذلك يستلزم خطوات كثيرة. فوقف الاستدانة في الوضع الحالي له آثار سلبية، ووقف دعم الليرة أيضاً يرتب أخطاراً قد تكون كارثية، لذا تبدو الإجراءات الكفيلة حالياً بوقف الانحدار، تطبيق القانون ووقف الإهدار ومكافحة الفساد وضبط الإنفاق وإعادة إطلاق خطط اقتصادية لجذب الإستثمار، واعتماد المساءلة والشفافية، الى أن يحين الوقت لتغيير شامل إذا كان ذلك ممكناً في ظل المحاصصة السياسية والطائفية. فالحل الجذري ليس متاحاً حالياً!


ibrahim.haidar@annahar.com.lb
Twitter: @ihaidar62