أهلاً بكم في برزة... رحلة ميدانية الى الحي الذي أنهكته الحرب

زياد أبو علي

تخفق كل المحاولات لإقناع سائق سيارة الأجرة بالتوجّه إلى قلب برزة، لا يعطي الرجل الخمسيني أي مبررات لكنه يصمم على إنهاء رحلته عند مدخل الحي، ننطلق اذاً من حي مساكن برزة المجاور حيث مجمع تجاري ضخم وسلسلة مطاعم وازدحام عطلة نهاية الأسبوع، الحياة هادئة اذاً حتى الوصول إلى حاجز للقوات الحكومية يعتبر نهاية منطقة وبداية أخرى.


الإجراءات تبدو روتينية كأيّ حاجز في العاصمة، ولكن العابرين انتظروا طويلاً في الأشهر الماضية مع تعدد الجهات المشرفة على بوابة العبور إلى برزة بين مجموعات تتفاوت في أسلوب التعاطي مع الناس. تتحرك السيارة إلى تقاطع يقود إلى برزة فيتوقف السائق عند نقطة سنعرف لاحقاً أنها حاجز للجان المصالحة تضمّ اغلب الفصائل المقاتلة هناك، تطلب البطاقات الشخصية، يقلبها العنصر بسرعة ثم يسمح بالمرور نحو منطقة السوق والكاراج حيث انتشار امني كثيف قبل أن يتدخل مراهق ببزة عسكرية لطلب البطاقات مجدداً، ثم يصر بنزق على معرفة مقصد الزيارة ومكان السكن وهي حالة تنسحب على باقي الحواجز على مداخل برزة حيث لا مجال للصدام أو مجادلة أي عنصر، إذ قد ينتهي الأمر بالسجن. ستكون هذه تجربة مريرة لأن مرافق رحلتنا سيقوده عناده إلى المصير أعلاه بعد حين. في النهاية تتحرك سيارة صغيرة في قلب الحي فيما تتحول مسام الجلد للركاب إلى عدسات مستنفرة لالتقاط كل صورة في منطقة اعتبر الدخول إليها من المحظورات بالنسبة إلى كثير من السوريين.



داخل برزة ثمّة مشهدية غريبة من نوعها، فالأبنية مدمّرة أو شبه مدمرة ومع ذلك هناك من اختار الإقامة فيها غالبهم هم السكان الأصليون ممن نزحوا مع يوميات الدم والنار إلى دمشق، فاكتووا بنار الإيجارات الخيالية وفضّلوا العودة إلى ما تبقّى من بيوتهم مع أول لحظات صمت المدفعية وتوقّف القصف. بعض البيوت فقد صفته الأساسية وتحول إلى مجرد ممر للعبور من شارع إلى آخر فيما بقيت بعض النوافذ شاهدة على أماكن تمركز القناصة خاصة على طريق يخترق الحي ويقود إلى مشفى تشرين العسكري، لعل الأخير كان سببا أساسيا في الهدنة، فالمشفى الذي يؤمّن خدمات آلاف العاملين في القوات المسلّحة والجيش كان مسرحاً لعمليات القنص وإطلاق القذائف بشكل مستمر، فيما تتمركز على جانبيه نقاط تابعة للجيش لا تبدو بعيدة عن نقاط تتبع بدورها لجبهة فتح الشام أو جيش الإسلام وغيره.
الجار القابع على بعد كيلومترات من برزة تسلّل تدريجياً إلى المنطقة رغم كل ما حصل ويحصل، ففيما تدخل بشكل مستمر أسطوانات الغاز والخبز والخضار عادت خدمات الكهرباء والمياه بشكل جزئي، بينما يبدو مشهد الاستماع لإذاعة محلية أو بث تلفزيون شبه حكومي في قلب برزة أمرًا أكثر غرابة.



السوريالية لا تتوقف هنا فجميع فئات السوريين وتلك التي أفرزتها سنوات الحرب ستصادفها في برزة، المدني والمسلح للجيش الحر أو أحرار الشام أو جيش الإسلام وصولاً إلى تنظيم فتح الشام أو النصرة سابقاً البعض يعرف من ملابسه الباكستانية ولحيته الطويلة، وآخرون من لكنتهم غير السورية وإصرارهم على الحديث باللغة الفصحى. التعامل مع هؤلاء حذر للغاية وأيّ مشادّة أو تصادم سيقود بسهولة إلى السجن مرة أخرى، هنا لا يدور الحديث عن سجن واحد، فلكل فصيل معتقله الخاص به وعناصره الأمنية المختصة والمتصلة بدورها مع رفاقهم في الغوطة الشرقية والقابون. قد يبدو مضحكاً للغاية أن حياً صغيراً يضم اكثر من ستة فصائل كبرى وعشرات السجون ومقرّات أمنية! ربما هذا ما يفسّر حمل بعض الناشطين المدنيين مسدسات مخفية بين ثيابهم وما يفسر لجوء البعض الآخر للأحزمة الناسفة أو استعمال قنابل يدوية في بيوتهم كنوع من الحماية عند حصول أي مداهمات.
لعل الحالة الأخيرة أعلاه ستكون سبباً في فتح أبواب الحديث إلى ناشطين صنعوا جزءاً من الحراك المدني والمسلح يوماً ما. في الغوطة وبرزة قد يفتتح البعض كلامه بجملة (لك ما دخلنا... الله يفرج) العبارة الأخيرة كانت إشارة إلى عدم رغبة المتحدث بفتح أي نقاش حيال الحدث السوري، ولكنها هنا ستحمل رمزية للاستياء الشديد مما يجري في منطقتهم.



بشكل أو بآخر لا نفوذ للحكومة في برزة ما يعني أنها منطقة خاضعة لسيطرة المعارضة. ربما يمكن رصد تفاصيل تتشابه مع غيرها من المناطق في الشمال السوري وأبرزها فوضى السلاح والحالة الأمنية الهشّة. يقول الناشط في العمل الإغاثي إن الحكم الأول والأخير يبقى للسلاح، ورغم وجود مؤسسات مدنية إلا أن الكلمة تبقى لقائد الفصيل الأخير الذي سينسج بدوره علاقاته مع تجار ومشايخ يؤمنون له الدعم المطلوب، ومن ينشق عنه يستقبله فصيل آخر فتزيد الحساسية فيما بينهم قبل أن يضيف: (هناك هاجس امني يخيّم بظله بوجود عشرات الأمنيين المتخفّين بين الناس، هؤلاء يراقبون ما نقول ونتحدث به هنا وعلى الإنترنت، وكثيراً ما تتم عمليات الاعتقال اثر الخروج من الجوامع أو حتى عبر مداهمات للبيوت).
من المسؤول عن هذه الحالة اذاً؟ الإجابة المشتركة بين الجميع هي غياب أيّ مشروع مدني لإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، لا أحد يستطيع ملء الفراغ سواء بسبب ضعف موارده أو لأن الداعمين فضلوا أن تبقى الكلمة الفصل للسلاح، ولكنها كلمة مشتتة فكل الدعوات لتوحيد الجهد العسكري كانت تقابل بمحاولات لفرض طرف دون غيره. اليوم كل مجموعة تغضّ الطرف عن الآخر، ولكنها جاهزة في الوقت نفسه لحرب إلغاء تسعى من خلالها للتمدد والسيطرة على منطقة تؤمن له دخلاً مالياً إضافيا، وكذلك يمكنها من خلالها تهديد من هم على الضفة المقابلة أي الحكومة ودمشق.


 


إذاً كيف هي العلاقة مع دمشق؟
لم ينس أحد في برزة مرارة العلاقة مع الدولة منذ ستّ سنوات وصولاً لإبرام اتفاق الهدنة أو المصالحة. يعترفون انه اتفاق يخدم الطرفين بصورة ما، ولكن هذا لم يعنِ يوماً احتمال عودة الاندماج مع الدولة ومؤسساتها، يقولون إن جهات عديدة في النظام تعارض الهدنة وسعت كثيراً لخرقها فيما تريد أخرى إبقاء الوضع هادئاً، حدثت في مرات عدة عمليات قنص أو إطلاق قذائف وحتى خطف جنود من القوات الحكومية فكانت الأخيرة تردّ بإغلاق الطرق والمعابر مع تضييق على حركة المدنيين إلى حين حسم المسالة من قبل لجان المصالحة الوطنية ثم تعود وتفتح من جديد. في النتيجة لا نية للغالبية للعودة إلى (حضن الوطن) فمن أراد تسوية وضعه والاستقرار في دمشق قد فعلها منذ الأسابيع الأولى للاتفاق، وبالتالي سيبقى كل شيء على حاله حسب تعبيرهم.


 


ولكن إلى متى؟ هل ستقترب الحافلات الخضر من معاقلهم؟
يعرف غالبية نشطاء برزة مدنيون أو عسكريون أن الحالة التي يعيشونها لن تبقى طويلاً. ثمة قناعة أن اتفاقاً دولياً بات يرسم حدود (سوريا المفيدة) كما يسمونها وأحد أبرز بنوده إخلاء دمشق ومحيطها من أي وجود للمعارضة وكياناتها، فيما يحسم آخرون الأمر على انه تغيير ديموغرافي و(مؤامرة) على الثائرين ضد النظام. وعليه فإن ما حدث في داريا والهامة وقدسيا والمعضمية سينسحب يوماً ما على #الغوطة الشرقية، وضمناً على برزة والقابون والتل في الضفة الشرقية للعاصمة. أما متى هذا الموعد؟ فلا يعتقدون أن الوقت قريب رغم تسريبات تقول إن هناك من وقّع بالفعل في دوما على مثل هذه التسوية. في المحصلة لا أحد يريد ركوب الحافلات والتوجه نحو إدلب أو غيرها، ولكن المرحلة اليوم هي ما جنته الأيدي منذ ست سنوات. هنا أيضا ثمة حديث عن مراجعة قاسية لما جرى طيلة الفترة الماضية لا سيما بين الأيام الأولى للعمل المسلح ودور الجهات الممولة والداعمة، ثمة اعتراف كبير بمعارك ومواجهات لم تكن سوى محرقة للكثير من المقاتلين والمدنيين بل ثمّة فصائل كانت تتعمد في كثير من الأحيان إطالة أمد المعارك بغية الحصول على دعم وتمويل إضافي يعرف القادة انه سيتدفق بشكل مستمرّ م ادام الأمر متعلقاً بالحرب والأخيرة كانت سبباً بانتشار تجار الحروب، فتتوقف بعض المعارك بسبب بيع الذخائر والسلاح وتنقله من مكان إلى آخر. أما اليوم فإن اقصى اهتمام قائد الفصيل أو الكتيبة هو الاهتمام بمقرّه وسياراته وعناصره الأمنية لا أكثر.



هل أتعبتهم الحرب؟
قد يبدو السؤال ساذجاً بعد ست سنوات دموية مرّت بها البلاد، ولكنه بوابة تفتح الكثير من النوستالجيا والذكريات لتفاصيل عديدة توقّفت مع خيارهم الالتحاق بركب الحراك الشعبي مدنيًّا كان أو مسلحًا، ثمة من ترك خطيبته وعائلته وهناك من يترقب العودة لجامعته أو التوجه لبلد آخر بحثاً عن فرصة أمل أخرى، الجميع تعب من كثرة القتال ولكن لا خيار آخر لديهم حالياً كل شيء يصطدم بالواقع الحالي، خراب يعمّ، فصائل تتقاسم النفوذ والسلطة، فوضى سلاح ولا مشروع لما سيحدث حتى في اليوم التالي.
ما الذي حصل مع مرافق رحلتنا وأين أصبح؟ لا يتوقف كبار ناشطي برزة في تقفّي أثره دون فائدة قبل أن يحسم القرار بمغادرتنا، تتحرك السيارة من جديد إلى دمشق ومجمعاتها الضخمة فيما لا يُعرف مصير الشاب قبل أن يخرج بعد بضعة أيام، لم تكن الحكاية أكثر من (فركة اذن) كما يسمّونها... إنها برزة وهي صورة مكبرة قليلاً عن سوريا اليوم.