9 من كلّ 10 بلدات في جبل لبنان تقتل مواطنيها موتاً غير رحيم

اعتدت على فكرة أن في بيروت وضواحيها وفي غالبية قرى محافظة جبل لبنان التي أجول فيها، رائحة زبالة أو رائحة دخان ناتج عن حرقها. منذ سنة، وأنا لم أعد آبه لنوع العطر الذي أُعطِّر به قميصي، لأنني بتّ على يقين أني سأصل الى مكان عملي في وسط المدينة مع رائحة المشحرة. ويحصل ذلك لسببين. الأوّل أن لا أحد من ركّاب النقل العام يلتزم قانون منع التدخين. والثاني لأنني لم أعد أعي متى وكيف واين ستقرّر البلديات، او ربما بعض المبادرات الفردية الشيطانية حرق النفايات المكدّسة. يباغت الدخان الكثيف المتصاعد قدرتي على إقفال نافذة العربة. دخان سميك يقتحم الأمكنة دون استئذان. منذ سنة. ولا شيء تغيّر. ويأتي هذا التحقيق لأوّل مرّة معالجاً، وفي صيغةٍ عفوية تامة، ارتأيت خلالها إطلاع القارئ على كيفية اعداده في قالبٍ تنفيذيّ. علّها الطريقة الأمثل لتصوير فداحة الوضع الذي وصلنا اليه، وبسخرية. بدايةً كان لا بد من البحث عن دراساتٍ معدّة حول مخاطر حرق النفايات، تأتي بأرقامٍ ونسبٍ وتوصيفاتٍ واضحة للمخاطر الناتجة عن هذا العمل البدائي. والمضحك المبكي أن غالبية الدراسات المتوافرة، ان لم نقل كلّها، تتناول مظاهر حرق النفايات في "دول العالم الأخير" كدولة غانا ودولة النيبال.


وفي دراسةٍ شاملة ومتكاملة نقلها موقع scientific American الأميركي، تبيّن أن 40 الى 50% من النفايات تتكوّن من كتلة الكربون، ما يعني أن ثاني أوكسيد الكربون هو الغاز الرئيسي المنبعث من حرق القمامة. واذا اردنا مقارنة انبعاثات ثاني اوكسيد الكاربون الناتجة من السيارات او محطّات توليد الكهرباء نجد أن نسبتها تبلغ 5% وحسب من اجمالي انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون عالمياً. بيد أن المسألة الأكثر إثارةً للاهتمام والتي نقلتها الدراسة نفسها، فتتمثّل في الانبعاثات الأخرى التي تنتج عن حرق القمامة والتي تشمل انبعاثات الجسيمات السائلة الصغيرة والقطرات السائلة من الغبار اضافةً الى انبعاثات المعادن التي من الممكن أن تخترق أعماق رئتي الانسان. ناهيك عن أن 10% من انبعاثات الزئبق تأتي من النفايات المحروقة في الهواء الطلق، فضلاً عن 40% من الهيدروكاربونات العطرية الذي يسبب أمراض الرئة والجهاز العصبي والنوبات القلبية وأنواع متفرّقة من السرطانات.


30 مليون متر مربّع مستعدّ لاستقبال النفايات
لم تؤثّر الدراسة العلمية التي أعدّتها الجامعة الأميركية في بيروت حيال مخاطر حرق النفايات وانعكاساتها في ضمائر البلديات والمسؤولين عن حرق النفايات على حدٍّ سواء، حيث تبيّن أن نسبة الديوكسين المنتشرة في الهواء تزيد 2500 مرّة عن المعدّل المسموح به. والوضع لا يزال على ما هو عليه منذ أكثر من سنة. هذا الواقع يترجم خللاً في الدورة الغذائية ويصيب الثروة السمكية والتربة والمياه الجوفية، ويترك آثاراً لعشرات السنوات القادمة. في هذا الصدد يحمّل الخبير البيئي الدكتور بول ابي راشد في حديثٍ لـ"النهار" مسؤولية التخاذل الى اللجنة الوزارية المخوّلة ادارة ملفّ النفايات معتبراً أنه كان يجب عليها أن تُفتِّش عن مكانٍ مؤقّت لتوضيبها حتّى الانتهاء من العمل في المطامر المستحدثة.


يقول: "وضعوا البلديات أمام أمرٍ واقع مفاده التفتيش عن أمكنة خاصّة لوضع النفايات حتى شهر تشرين، ما يعني أنهم شجّعوهم على الاستمرار في حرقها. في حين أن بعض قرى جبل لبنان تعمد الى تهريب نفاياتها الى البقاع، حيث ينقل شهود عيان أن رائحة النفايات لم تعد تحتمل". ويتساءل عن السبب الذي يمنع الحكومة من وضع النفايات في المقالع والكسارات المقفلة التي تبلغ نسبتها 30 مليون متر مربّع. يمكن برأيه في هذه الحالة اللجوء الى فرزها وتوضيبها، حيث يوجد اكثر من شركة خاصة مستعدّة لهذه المهمّة.


غالبية البلديات غير مؤهّلة: 9 من 10 تعمد الى الحرق
تعمد غالبية بلديات قرى جبل لبنان اليوم الى استخدام سياسة الحلّ المتبعة في المناطق البقاعية، التي تلجأ الى حرق النفايات للتخلص منها منذ أكثر من 17 سنة. في حين أن سوكلين في حياتها الطبيعية التي امتدت حوالى عقدين من الزمن، كانت تعمد في هذه الفترة الى نقل 80% من نفايات الى مطمر الناعمة، وتعالج الـ20% المتبقيّة منها. اليوم تبدّل كلّ شيء. لكن، وبحسب الخبير البيئي عاصم شيّا، ان طبيعة الأرض البقاعية تختلف عن طبيعة الأرض في جبل لبنان. يقول في حديث لـ"النهار" أن "المياه يمكن استخراجها في الأراضي البقاعية بعد 4 أو 5 دقائق من الحفر، في حين أن مياه جبل لبنان جوفيّة وبالتالي الضرر الذي تكتسبه من عمليّة الحرق أشبه بالكارثة. ويشير الى أن 8 الى 9 من أصل 10 بلدات في محافظة جبل لبنان تعمد الى حرق النفايات اليوم، في ظلّ عدم قدرة المجالس البلدية او أهليتها لإيجاد حلول جذرية للمشكلة في ظلّ عدم خبرتهم وضيق سبل الحلول في وجههم. برأيه لا بد هنا من الضغط على الرأي العام للحدّ من إنتاج النفايات بدلاً من اللجوء الى الحرق.


أكثر من سنة مضت، ولا تزال اللعنة تلاحق مستوعبات القمامة. الملل بات يرافق التقارير الصحافية التي تعدّ في اطار هذا الموضوع الذي بات يعيد نفسه في كلّ مرّة، ولا يتغيّر فيه شيئاً سوى لعبة الزمن الثقيلة. لعلّ الاعتياد على هذا الواقع بات أشبه بموتٍ بطيء غير رحيم. موتٌ يمارسه الجميع دون استثناء. ويدفع ضريبته الجميع دون استثناء. يمارسونه تحت شعار التنويم المغناطيسيّ. وحين ستأتي لحظة الصفعة اللئيمة التي تنذر بضرورة الاستيقاظ، قد يكون الأوان قد فات. لكن لا. ربما تعويذة السحر المغناطيسيّة هذه، لا جملة شعوذة ولا حركة ايمائية ولا حتّى طبيباً مختصاً يقدر على فكّها. انها كذبذبات قوّة جبروت، احتلت مدينة.