ناهض حتر شهيد الحلم والكلمة وإن اختلفنا معه

كأني بهذا الأردني المعتنق أفكارا تنويرية ويسارية بشراسة، تذكرنا بفرسان النضال الاول، أراد أن يرسم سيرة نهايته بيده وبلسانه، طائعا مختارا، لحظة قرر أن يفتح ابواب المواجهة على مصراعيها مع منظومة أفكار عاتية شموس شرسة هي السلفية بكل مسمياتها ومستنسخاتها، في لحظة ترى هذه المنظومة أن لحظتها أينعت وأن قطاف ثمار صعودها الصاروخي قد آن، وبالتالي فهي على أتمّ استعداد لتمارس فعل اجتياح واجتثاث وسحل لكل من يجاهر برغبة الوقوف في طريق تمددها وتمكنها.


كأني بناهض كان يحوك خيوط قصة موته المعلن، خيطا خيطا، وقد جعل شغله الشاغل التصدي للتشدد والتطرف الذي استوى بشرا سويا لا يملك إلا مخالب وأنياباً، ويفتقر الى العقل يعلن استعداده التام لاغتيال أي كلمة يستشف منها معاداته، ويغتال أي كلمة يستشم منها أنها توجه اليه نقدا، ويقمع أي فكرة يتنسم منها الاعتراض على فعله.
كرّس ناهض كل وقته وكل نتاج عقله وقلمه ولسانه لاجتراح سبل التصادم مع هذا العالم الذي رآه جهنميا كارثيا إذا ما استشرى ولم يجد من يجرؤ على الوقوف أمام سلطانه الجائر، خصوصا بعدما قسم هذا العالم الغارق بالتطرف الدنيا على رحبها الى فسطاطين، إما معه وعلى تابعيه ان يتقبلوا كل جموحه، وإما ضده وهو كل من خالفه رأيا أو حاججه فكراً ومنطقاً، وبالتالي عليه ان يتلقى فيض حقده وعتوّ شراسته وانتقامه.
لم نلتقِ ناهض إبان إقاماته المتكررة في بيروت حيث منتدياتها وشغل نخبها، ولكن الذين تواصلوا معه وجدوه مثقلا بإحباط عميق متأتٍ عن تداعي كل منظومات التنوير والقلق الوجودي الباحثة عن سبل لرفع قيمة الانسان لكونه خليفة الله على الارض، والساعية إلى رقي الأوطان والمناضلة لغرس القيم العلمانية، لذا قرر عن سابق تصور وتصميم أن يقف في وجه الغضب الذي ينفثه التطرف، فكان له ما أراد واختار.
قتل في وضح النهار وعلى مرأى من عين الشمس. قتلته اليد عينها التي انغرزت قبل نحو ثلاثة عقود في رقبة الأديب الكبير نجيب محفوظ أمام أعين القاهرة برمتها، قتلته اليد التي اغتالت في ثمانينيات القرن المنصرم مهدي عامل وحسين مروة وفرج فودة وسواهم عشرات من رجال التنوير والعصرنة.
سيرة ناهض حتر ليست سيرة فاتحين. لم يكن يحبذ إلا صفة الصحافي والكاتب والصارخ في برية هذا العالم العربي الذي انزلق الى التوحّش. أراد ان يعيد الاعتبار الى قيم العلمنة والتحديث التي أخرجت من قبل أمما وشعوبا من كهف جاهليتها الى عصور الانوار والتنوير، فلم يكن يملك إلا الكلام المباح وامتشاق القلم، وأبى المهادنة ورفض سيل التهديد والوعيد الذي تلقاه دوما، فكانت النهاية التي استشرفها قتلا على يد قاتل فعل فعلته في وضح النهار وانتظر ان يلقى القبض عليه لأنه يعتقد ان قتل شخص مثل حتر يعجل في حجز مكان له في الفردوس الاعلى. كانت السبل ممهدة امام ناهض ليرتاح من عناء كل هذه المعارك والتحديات، وهو المسيحي الذي يمكنه أن يلتحق بمن سبقه الى عالم الجذب الغربي، ولكنه آثر البقاء في عالم النبذ، متحديا المغريات. والأكيد أن شخصاً بحجم ايمان ناهض وبمعتقداته، أراد لدمه أن يسفك في الشوارع لانه اراده جسر عبور الى الافكار التي اعتنقها، علّ أجيالا لم تولد بعد تتخذها نبراسا ومعلماً من معالم الطريق.
الثابت ان هناك من يؤيد سلوك هذا الانسان ويعتبره من فرسان الحكايات والحكماء والاصفياء، والثابت أيضا أن هناك من يعارضه ويضعه في مقام المغامرين الباحثين عن خلود عبثي في زمن تجاوز الاحلام الغيفارية، ولكن بالنسبة إلينا يظل ناهض رجل فكر وحامل رؤى آمن بها حتى العظم، فكان شهيدا آخر في محراب العقل والكلمة.