هو تمام سلام بجدارة

رشيد درباس- وزير الشؤون الاجتماعية

ربَّ غيظ قد تَجرَّعْتُهُ مخافة ما هو أشد.


الأحنف بن قيس
لو أراد مراقب عاقل الدخول الى تراكيب السياسة اللبنانية، لخرج منها وقد أخذ منه الدوار وزيغ العينين كل مأخذ، ذلك أن المتصارعين يأتلفون في حكومة، ثمّ يتنصلون منها تمنعاً أو تسرباً أو رميًا لها، كما ترمى المحصنات، كأنما هي كيان مستقل عنهم، حتى إنَّهم يبرِّئون أنفسهم من قراراتها، وهي التي لم تأخذ قراراً واحدًا إلا بإجازتهم الصريحة أو الضمنية.
كنت أصرف وقتًا كثيرًا في مراقبة بعض الزملاء المنتسبين إلى سياسات متواجهة، وقد حلت على حواراتهم بغتة، اللباقة والطلاوة واحترام الألقاب، ثم أستغرب كيف يستأسد بعضهم بوجه رئيس الحكومة لأنه يتمسك بأمرين، هما صلاحياته الدستورية، وصبره الطويل الموصول بسلامة الدولة...
قيل عنه إنه مغتصب سلطة وداعشي بلا لحية، ومخلّ بالميثاقية، وأشياء أخرى كثيرة لا تحتاج إلى عدٍّ ولا تفنيد لأن الرأي العام يستهجنها ويأسف لجحود أهل الدار فضلَ حارسهم وحارسِها الأمين...
لكنني في هذه الكلمات، أريد أن أؤكد أن إطلاق التهم والإثارة بوجه الحكومة، ليس في حقيقته إلا إعترافاً صارخاً بالذنب، لأن الحكومة لا تُقْرأُ من دونهم، ولا تستقلُّ عنهم، ولا تصلح لتكون هدف سهامهم فيما هم جزء منها كعمود الأساس، يمارسون صلاحياتهم في وزاراتهم ويعطلون ما لا يعجبهم من قرارات، مكتملو الصفات والمواصفات، متمتعون بأبّهة السلطة، ويوهمون أنفسهم أنهم بهذا ينالون براءة ذمة من تبعات كانوا شركاء في صياغتها؛ كأن الحكومة كيان مبهم، يُرْشقُ رئيسُها بالتهم ويسكت بعضها على الأذى مضضاً، ليصح فيه وفيهم قول ابن خليفة:


عليهمْ وقارُ الحِلم حتّى كأنّما...
وليدهمُ من أجل هيبته كهلُ
إذا استجهلوا لم يعزُبِ الحِلم عنهمُ...
وإن آثروا أن يجهلوا عَظُمَ الجهلُ
إذ كيف سينظر الوزير منا إلى نفسه، وقد رآها في عين نظير له، سُدساً من مئة أو ثُمناً، أو أي كسر من عشرة؟ أم كيف سيتعاطى مع رئيسه إذا كان هذا الرئيس يحابي الأعشار على حساب الأرقام الصحيحة التي طُبِّقتْ لحماً واكتزت شحماً وتاهت علينا "بشعبيتها" الكاسحة، المانحة المشروعيةَ للحكم، أو الحاجبتِها عنه؟
لا شك أن التدهور لا يقف عند حد، وأن القاموس السياسي الجديد لم يخضع لرقابة أي مجمع لغوي، وأن الإمعان في التنابذ لا يأخذ أبدا في الاعتبار حقائق لا بد من تظهيرها:
أولاً: كل وزير هو حقيقة دستورية، وكل ثمانية وزراء - مهما كان تمثيلهم الشعبي موضع تشكيك - يستطيعون إرسال الحكومة إلى بيتها، إذا فاض بهم الكيل قبل أن يفيض كيل الرئيس.
ثانياً: لم يلجأ الرئيس سلام يوماً الى استغابة أي مكون من مكونات الوزارة. ولكنه لن يسلم مصالح الشعب اليومية والملحة رهائنَ إرادات منفردة وإن عظمت قوة تمثيلها.
ثالثا: لا ينظر الرئيس ولا أكثر الوزراء إلى غياب أغلب الأحزاب السياسية المسيحية بعين الارتياح، بل أغلب الظن، أن الأمر إذا تمادى جعلَ الحكومة في حالة احتضار.
رابعاً: كل وزير تحسب فاعليته الدستورية بتوقيعه على المراسيم والقرارات، ورأيه في مجلس الوزراء، واذا كان هناك من جهة لها حق الاحتكام الى الشارع، فهي المعارضة، أما أن تُستَوْلَدُ المعارضة من داخل الحكومة، لتمارس دوراً في الداخل وآخر في الخارج، فهذا من علامات الساعة التي تنذر بزعزعة الدول، وفي هذا تقول القاعدة القانونية الرومانية المشهورة:
Donner et retenir,ne vaut.
خامساً: ان الهدف الوطني الأسمى، هو ابقاء الدولة اللبنانية على قيد الحياة في مرحلة بدأت تتجمع في أفقها بوادر تسويات، الأمر الذي يوجب على الحكومة وأهلها، تحويل الأزمة الى فرصة، وإلا ابتلعتنا الحلول الديموغرافية المتوحشة غير آبهة لصراخنا وعويلنا.
أردت مما تقدم أن أُوطِّئ للإضاءة على ما هو أخطر شأناً، عنيت الأزمة السورية المستدامة، وتأثيرها على مصير لبنان. هذا يُلزمنا بأن نوحد إراداتنا، سواء من داخل إطار الحكومة الحالية، أو من خلال إطار آخر، إذا تم تسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لأن الحصيف يرى بلا شك كيف يسير اتجاه المعارك في سورية، ويقرأ الجغرافيات الجديدة، وحركة تنقل السكان، ودعوى سوريا المفيدة التي لا تحتاج من فاض عنها من اللاجئين،ويحلل المصالح التي تبغيها الدول المشتركة في القتال مباشرة أو مداورة، وكيف يشيح المجتمع الدولي بنظره عن مذبحة طالت زماناً أكثر من الحرب العالمية، فيما الأمواج تزدردُ أفواج العائلات الفارة من قصف الفرز السكاني، وينحشر مئات الآلاف منهم في أرضنا الضيقة التي فقدت حدودها البرية، فصرنا إلى ما قاله طارق بن زياد بصورة مقلوبة أي: العدو من ورائنا، والبحر من أمامنا... فأين المفر!!؟
إن ما يجري في جرابلس مدعاة لكي تستنفر الدولة اللبنانية قضِّها وقضيضها، لحثّ المجتمع الدولي على تأهيل تلك المناطق التي تنحسر عنها المعارك، ترغيباً للإخوة السوريين بالعودة الكريمة إلى وطنهم، صَوْناً لنا ولهم من سوء العاقبة (يراجع خطاب رئيس الحكومة في مؤتمر القمة).
إن التطورات تملي علينا أن نسترجع الائتلاف، ونفعِّل حكومة المصلحة الوطنية، متناً صالحاً للخروج من الحريق الذي يحيق بنا من كل صوب، ومنصَّة لخطاب جامع يحمي ولا يهدد، يصون ولا يبدد، يلجُ من الأسماع إلى القلوب، ويكتم الضغينة فوق الحناجر والعقائر، ويتوخى الحلم والإنصاف والرفق بالنفس قبل الرفق بالآخرين.
وبعد،
إن تمام سلام لا يختصر بنسبته إلى أبيه الرجل العظيم، فهو ابن صائب سلام وامتداده، ولكنه أيضاً هو تمام سلام بجدارة، من حسب قديم يبني حسباً جديداً، ينظر الى زملائه كأسنان مشط أو كما قال أمير الشعراء في الحجيج:
تساوَوْا فلا الأنسابُ فيها تفاوتٌ
لديكَ ولا الأقدارُ مختلفاتِ


ولهذا فهو يزننا بالقراريط الدستورية، لا بأثقال الخطب التحريضية، لأنه لا يدير تجارة " مال قبان" ولا يرى بيننا واحداً زنته طنٌّ من الشعبية، وآخر وزنه ريشة في مهب الغطرسة.
كل واحد منا هو 1/24 من دست الحكم، و1/24 من فخامة افتراضية، و24/24 من ورشة وطنية. أما هو " فالكاظم الغيظَ اتِّقاءً لشرٍّ أشد " كما قال الأحنف.