الخبز عيشنا... وبه نحيا

جوزف باسيل


أثارت الشوائب الكثيرة التي ظهرت في الطحين في بيروت، والذي يوزّع على المناطق، حفيظة اللبنانيين الذين ما بقي لهم غيره بعد تلوّث الخضر وفساد اللحوم والدجاج وحتى الاسماك. والخبز رأس مائدتهم.
وسبق تلوث الطحين اهراءات القمح في مرفأ بيروت التي كانت الجرذان تعبث في افنائها. وعلى بعد منها ما سمّي مسلخاً، تتقزز النفس من بيئته الوسخة، ما يشعرنا بالغثيان من صور مؤذية للعين والنفس، فهل من تنفتح شهيته على الأكل؟
وعندما انحدرت أسعار النفط ومشتقاته الى الخمس تقريباً، لم ينخفض سعر صفيحة البنزين أو المازوت إلا النصف، وجرت مشاورات لخفض سعر ربطة الخبز اسفرت عن رفض تام من أصحاب الأفران! وأبدل الأمر بزيادة 50 غراماً كاملة على ربطة الألف غرام! وانتظروا، اذا عادت أسعار النفط الى الارتفاع، مطالبة أصحاب الافران بزيادة سعر الربطة!
صدف أن اطلعت على كتاب صدر حديثاً بعنوان "الخبز في مصر العثمانية" (المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات) أبرز أهمية الخبز في حياة كل شعوب منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، سواء العرب أو الأوروبيين، مع "سكر زيادة" للعرب، حتى أن المصريين يسمونه "عيشاً" تدليلاً على أنه العنصر الأساسي في معيشتهم. وهو موضع احتكار غالباً، خصوصاً حين تضعف الدولة المركزية، لأنه بقدر ما يؤمّن وفراً غذائياً وطمأنينة معيشية للمواطنين، يحقق أرباحاً طائلة للتجار على حساب حياة المواطنين.
دلّت الاحصاءات في القرن العشرين على أنّ الخبز يمثل اكثر من نصف الطعام المأكول في نصف دول العالم، وأكثر من 30% من الغذاء الذي يتناوله 87 في المئة من دول العالم. والمعدل العالمي لاستهلاك الفرد السنوي منه هو 65 كلغ، ونحو الضعف في البلاد العربية، ويتجاوز الى الضعفين في مصر.
ضربت الأمثال بالخبز كأهم عنصر غذائي للانسان، فقيل: "إن صحّ العيش يبقى الباقي بشرقة"، و"ضعيف وياكل مية رغيف"، وفضلاً عن أهميته الغذائية، وصف غالينوس الخبز الخميري النقي لرجل كان إذا خلا بطنه صرع، وأشار ابن البيطار الى ضمادات كان يصنعها غالينوس وديسقوريدس من خبز الحنطة لتسكين الأورام.
وأوصى الأطباء العرب مرضاهم بتناول خبز القمح دون غيره، وقالوا إن خبز الخمير إذا وضع على الورم مع دهن بنفسج، نفع. واشار ابن سينا الى استخدام ضماد الخبز لأنه اسخن من ضماد الحنطة بسبب الملح، وأنّ الخبز اذا خلط بماء وملح نفع الأعضاء.
وفي قرانا استعملوا "لزقة الخبز"، بفت الخبز وصب الماء المغلي عليه، ثم يعصر ويوضع بين صفحتين فوق إناء فيه ماء مغلي ويدهن بالزيت لئلا يلصق بالجلد. وتستعمل هذه اللزقة للجروح المفتوحة التي اجتمعت المدة فيها. وتستعمل باردة لتسكين الالتهابات وتصنع لزقة أخرى من الخبز واللبن لتسكين اللثة التي اجتمعت المدة فيها.
ومن العادات التقاط فتات الخبز وتنحيته جانباً لئلا تدوسه الأقدام، وربما تقبيله قبل ذلك.
اهتم أجدادنا بزراعة القمح في حواكير الى جانب المنازل، بمساحات صغيرة، بقدر ما تسمح به المرتفعات، فكل مزارع يؤمّن حاجته من القمح، للطحين والبرغل، وهي زراعة متوارثة عن العصور القديمة التي نجد فيها تقديس القمح عند المشرقيين والمصريين القدامى. فكان العبرانيون يقدمون الخبز والدقيق في أثناء تقديم الأضاحي، وعليه قدّم المسيح الى تلاميذه الخبر باعتباره من القرابين المقدسة.
وانعكست نظرة احترام الخبز واكرامه عند المسلمين على طريقة تقديمه في الطعام وأكله ومعاملته، وما يمكن أن يوصف بآداب الخبز على المائدة. وأولها أن يقدّم قبل الأدم، للشروع في أكله..
ونظراً الى الدور الذي أعطي للخبز في حياتنا، نشير الى أنه خضع في كل العصور لقوانين وأنظمة حدّدت مواصفاته المطلوبة. وأصول صناعته وقواعدها، وتحديد أسعاره. وتوارثت الدول هذه الأنظمة والقوانين، لأنّ التلاعب بلقمة الناس يثيرهم ويغضبهم. وشهدنا ثورات كثيرة في العالم بسبب فقدان الخبز.وتعود الانتفاضات التي حدثت في الدول العربية الى وجع الجوع الذي شعرت به مجموعات واسعة من الشعوب العربية، خصوصاً في تونس ومصر، أو انّ هناك من استغل الوجع لتحريك مشاعر الجوع. ويبقى التعطش الى الحرية هو أشد أوجاع الشعوب وأخطرها على الأنظمة. وليس هنا المجال لتعداد ثورات الخبز. وتدليلاً على أهمية الخبز، نلاحظ أنّ دول العالم تسعى الى رقابة مستمرة عليه، بدءاً من زراعته وحصده وتخزينه، ثم طحنه بعد تنقيته ونخله وعجنه وخبزه، بما فيه جودة انضاجه والدقة في الوزن، وأخيراً ضبط الأسعار.
فهل ينال الرغيف، على أهمية ما وصفناه به، الاهتمام الذي يفترض له في دولتنا الكريمة؟ فليبحث كل منكم في جواب عن هذا السؤال؟


joseph.bassil@annahar.com.lb