الراعي من القاع: لا شيء يحمينا سوى دولة القانون

وسام اسماعيل

لم يتردّد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي لحظة واحدة في التوجّه اليوم بقاعًا الى بلدة القاع المتروكة لقدرها، والواقعة في أقاصي البقاع الشمالي على الحدود المتاخمة لسوريا، وهي واحدة من اكبر البلدات الكاثوليكية بعد زحلة، ليقدّم العزاء لأهلها ويواسيهم بشهداء البلدة الذين قضوا في الهجوم الارهابي الذي استهدفها الشهر الماضي، ويُوَجِّه رسالة رمزيتها الوحيدة بأن مسيحيي الاطراف وخصوصا القاع، صامدون في مواجهة الإرهاب، حيث هنالك الناس تحتاج الى هذا النوع من المؤازرة والشعور بأنها ليست وحدها في مواجهة خطر الارهاب.


الراعي الذي شدد على انه يولي اهتماما لرفد القرى المسيحية الأمامية عند الحدود الشرقية المفتوحة بوجه هذه التنظيمات الارهابية المتطرفة، وَجّه رسالة اطمئنان بأن القاع ليست في الأطراف بل هي في قلب الراعي ولبنان وقلب كل مسيحي ومسلم قائلا: "انتم تحملون رسالة كبيرة، فأنتم سياج الوطن والمنطقة، ونحن هنا لنبقى ونحافظ على وطننا ولبنان الرسالة. أما المتطرّفون الإرهابيون فلا صلة لهم بأي دين، ونحن نقول لكم نحن إلى جانبكم ومعكم على كل صعيد روحي ومعنوي واجتماعي ونحمل صوتكم ومخاوفكم".


وكان الراعي وصل الى البقاع الشمالي قرابة العاشرة صباحا يرافقه وفد "رفيع" من المطارنة والكهنة وسط تدابير امنية مشددة، وكانت محطته الاولى عند مفترق بلدة رأس بعلبك المتاخمة للقاع حيث كان في استقباله راعي ابرشية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك المطران الياس رحال وكاهن الرعية الاب ابراهيم نعمو واهالي رأس بعلبك الذين استقبلوه بنثر الارز والورود.


لينتقل الى القاع حيث استقبلته دموع اهالي الشهداء التي تأثر بها كثيرا، الى جانب الحضور الدائم للنائبين اميل رحمة ومروان فارس على طول الشريط البعلبكي المسيحي، كاهن الرعية الخوري اليان نصرالله، رئيس المجلس البلدي المحامي بشير مطر واعضاء المجلس، قادة عسكريون، ووفد كبير من بلدة بتدعي برئاسة باتريك فخري والاهالي.


بعد الصلاة مع الجرحى والمصابين واهالي الضحايا في كنيسة البلدة " مار الياس " انتقل الراعي الى صالة الكنيسة حيث توجّه بالتعزية القلبية الى اهالي الشهداء فردًا فردًا وسأل خاطرهم وسأل الله الراحة الابدية لارواح شهدائهم دون ان ينسى الجرحى الذين نالوا بركته وعرضوا للبطريرك معاناتهم متمنيا لهم الشفاء العاجل.


واوضح الراعي ان زيارته للقاع هي "كي نقول لكل الناس اننا هنا وسنبقى هنا، عمرنا من عهد المسيح وهذه المنطقة فيها حضارتنا وكتبنا علينا تاريخنا، وبتضامنا وتكاتفنا نحافظ على وجودنا والدولة هي المسؤولة الأولى عن أمننا والمسؤولة الأولى عن حماية الوطن وكل مكونات لبنان، كما أنها مسؤولة عن كل ما يحصل ولا شيء يحمي الاهالي إلا دولة القانون والحق، التي تحافظ على كل المواطنين، دولة قوية ونافذة وتمارس العدالة واذا لم تتكون الدولة بكل مكوناتها بدءا من رئيس وحكومة وجيش، فلا يمكن لها ان تعيش وتواجه كلّ التحديات الكبيرة التي تواجهنا".


ووجه الراعي تحية الى الجيش اللبناني والقوى الأمنية: "الجيش اللبناني والقوى الأمنية هم اكثر من ضحّى... ورغم الغصة في قلوبنا فنحن نعيّد القاع بعيد شفيعها مار الياس، ونشكر العناية الإلهية لأنه لولا الشهداء الخمسة لكانت الكارثة أكبر، فهم افتدوا بروحهم القاع وكل لبنان.


وطالب باسم الاهالي بـ"معرفة من قتل أولادنا وهذا حقّنا ونطالب به باستمرار"، كما وجّه نداءً للأسرة الدولية، مطالبا اياها بـ"إيقاف الحروب الدائرة في المنطقة وإيجاد الحلول السياسية لها واعادة كل النازحين وكل اللاجئين وكل المخطوفين إلى اراضيهم وأواطانهم، لأن هذا حقّهم الطبيعي، وإذا استمرت الامور كما هي فالسلام العالمي مهدّد وليس السلام في لبنان فقط".


وألقى المطران رحال كلمة رحب فيها بالبطريرك أكّد فيها تمسك المسيحيين بهذه الارض المقدسة وسيبقون متمسكين بأرضهم وحماية قبور الشهداء بأرواحهم وقال: "واذا لا كان بد من الاستشهاد فنحن لها وسنكون شهداء في سبيل الله وارض القاع. نحن هنا نعيش مع جيراننا وقلوبنا مفتوحة وايدينا ممدودة للجميع، نعيش مع اهل احباء يقفون بجانبنا ونحن واياهم سنقف صفا واحدا في وجه الارهاب والتكفيريين".


وطالب طوني وهبه باسم اهالي الشهداء بإحالة ملف الجريمة على المجلس العدلي واعتبر زيارة البطريرك الراعي ترجمة ليكونوا ثابتين على ارضهم والتعايش مع اخوانهم المسلمين في المنطقة وقال: "ان ارادة الخير تبقى الاولى بكل الظروف نحن نعيش ظروفا صعبة بفقدان اخوة وأبناء رحلوا تاركين اطفالا يتامى وامهات ثكلى وحسرة في القلوب. إنهم ابطال سارعوا الى اغاثة اناس وهم يعرفون وكانت لهم الشهادة نتيجة عمل ارهابي جبان".


واكد النائب فارس على العيش المشترك معا في المنطقة قال: "لم نعرف يوما من الايام الطائفية والمذهبية في هذه المنطقة، لا مسلمين ولا مسيحيين، فنحن نعيش عيشا واحدا وشهداء القاع يمثلون كل لبنان" واضاف: "نرحب بكم ونرى بزيارتكم رسالة محبة ومودة ومجيئكم الى القاع يخدم الوطن، هكذا علمنا السيد المسيح. ونحن في لبنان نموذج في الوطن العربي للعيش الواحد وللوطنية، ولا نعترف بحدود فنحن شعب واحد وزيارتكم لدمشق واللاذقية خير دليل، ونقول لكم نقف الى جانبكم من اجل وحدة وطننا ومن اجل بنائه من جديد وانتخاب رئيس للبلاد اليوم قبل غد".


بعدها توجه البطريرك الراعي والوفد المرافق الى منطقة عيون أرغش شمال غرب بعلبك عند اعتاب القرنة السوداء حيث وضع الحجر الأساس لمبنى مشروع المقر الصيفي لمطرانية بعلبك ودير الأحمر المارونية ومركز الرياضات الروحية في محلة عيون أرغش، في حضور راعي ابرشية بعلبك ودير الاحمر المارونية المطران حنا رحمة، راعي ابرشية جبة بشري المطران مارون عمار، المطران طانيوس الخوري من المقر البطريركي، المطران سمعان عطالله، رئيس رابطة كاريتاس لبنان الاب بول كرم، امين سر البطريركية الاب خليل عرب، امين سر الخاص للبطريرك الراعي الاب ايلي خوري والقيم العام لابرشية بعلبك - دير الاحمر المارونية الاب بول كيروز وفاعليات.


وتحدث البطريرك الراعي بعد وضع حجر الاساس لمركز الرياضات الروحية حيث حيا كل الاشخاص الذين يساهمون في هذا المشروع ليصل الى خواتيمه بشفاعة العذراء ويكون بمثابة اشعاع روحي للخدمة الرعوية الى جانب الكنيسة، وليتسع لكل الشباب الذين سيلتقون في هذا المكان روحيا واجتماعيا وكنسيا، لافتا الى ان هذا المشروع كانت بدأت حفرياته وقواعده مع المطرانين عطالله ورحمة. وشكر رابطة آل طوق في استراليا ورئيسها ديفيد طوق "نشكرهم على تضامنهم فهم يتواجدون في استراليا، ولكن قلبهم وفكرهم هنا وأُحمّلهم تحياتي الى كل المغتربين اللبنانين في استراليا".


واضاف: "مع الاسف يدور الخراب والدمار في هذا الشرق وكأن حضارة العالم هي حضارة الحروب والهدم والخراب، فنحن هنا في عيون ارغش نبني حضارة اخرى، هي حضارة بناء النفوس وبناء الحجر والبشر تحت حماية امنا مريم العذراء سيدة هذا المكان المقدس".


بدوره المطران رحمة اوضح ان مركزًا للرياضة الروحية اقيم لكل إنسان يختلي بربّه ويكتشف حضور ربه في الجبال، وسيكون مفتوحاً لكل الناس. "وواجب المطران على هذه الأرض هو اكتشاف حضور الرب في هذه الجبال النقية ليصلّي إلى لربه على نية كل لبنان، ليبقى وطن الرسالة والحضارة والانفتاح والتعايش والعيش المشترك الواحد، والمثال الأهم أمام كل العالم".


واختتمت الزيارة بغداء أُقيم على شرف البطريرك والوفد المرافق في احد مطاعم العيون.