سر الاهتمام الغربيّ بمنبج؟

امين قمورية

في نهاية شهر أيار الماضي، بدأت "قوات سوريا الديموقراطية"، التي تشكّل "وحدات الحماية الشعبية" الكردية، عمودها الفقري والقوة الوحيدة في سوريا، معركة منبج، متجاوزة ضفة الفرات من الشرق نحو الغرب، لتبدأ معركة السيطرة على المدينة الواقعة على الضفة الغربية للنهر، في ريف حلب الشمالي، على الحدود التركية، والتي يبلغ عدد سكانها مع ريفها، 550 ألفاً، 92 في المئة منهم من العرب، ويقطنها قليل من الأكراد والتركمان والشركس.
ومنذ 10 حزيران، أطبقت هذه القوات حصارها على المدينة التي ولد فيها البحتري وأبو فراس الحمداني وعمر أبو ريشة، وسرعان ما بدأت وسائل الاعلام تتداول انباءً عن مشاركة وحدات عسكرية خاصّة اميركية ومن ثم فرنسية وألمانية وبريطانية في هذه العملية، الامر الذي دفع الى اطلاق تساؤلات كثيرة عن سر هذا الاهتمام الغربي بمنبج ولماذا يحصل في هذه المدينة دون غيرها علما ان اهميتها الاستراتيجية العسكرية لا تقلّ عن اهمية الرقة او حلب مثلا؟
وبموازاة هذه الاندفاعة الشرسة نحو الهجوم، ثمة استماتة من تنظيم "داعش" ومقاتليه في الدفاع عن هذا الموقع، كذلك هناك قلق واضح في انقرة من سقوط المدينة الذي من شأنه ان يغيّر معطيات كثيرة في الشمال السوري على الحدود التركية، فما الذي يجري هناك وما اسباب هذا الاستشراس وهذا القلق؟


استكمال الحلم الكرديّ
تمثل منبج بالنسبة للقوات الكردية التي حشدت أربعة آلاف مقاتل، بدعم جوّي وبرّي واستشاري دولي كبير، جسراً يربط بين القطاعات الثلاثة لكردستان الحلم، الجزيرة وكوباني وعفرين، حيث يتصل قطاعا الجزيرة وكوباني، بعد سيطرة الأكراد على الشريط الحدودي مع تركيا كاملاً ويبقى الجيب ما بين ضفة الفرات الغربية وقطاع عفرين، والذي يبدأ بمنبج وجرابلس شمالها، مروراً بالباب ودابق، والتي يسيطر عليها جميعاً تنظيم "داعش"، حتى اعزاز، التي تسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة.
وبمعركة منبج، تكون "قوات سوريا الديموقراطية" قد دخلت مرحلة جديدة في معركتها وسيطرتها متجاوزة نهر الفرات، في مناطق عربية تاريخياً، لا يملك فيها الأكراد، امتداداً تاريخياً أو اجتماعياً، مستعيضة عنه في معركتها بالدعم الدولي الذي تحصل عليه من الائتلاف الذي تقوده واشنطن كونها قدّمت نفسها كأفضل الأطراف في مواجهة "داعش" ولا سيما في معركة كوباني، ومن روسيا، لكونها تحقّق لها مصالحها وتصطفّ في معسكرها كحليف للنظام السوري وإيران، في مواجهة المعارضة.


خطّ الدفاع الاول لـ"داعش"
أما بالنسبة لـ"داعش"، فإن منبج بحدّ ذاتها لا تمثل قيمة سياسية أو جيوسياسية كبيرة، كما كانت كوباني على سبيل المثال لكونها على الحدود مباشرة، لكنها تمثل امتدادا للجيب القليل المتبقي لها على الحدود، والذي يتعرّض لضغوطات كبيرة من الائتلاف أو المدفعية التركية أو هجمات الأكراد، مما دفعها للتخلّي عن عشرات القرى مرة واحدة.
وتعد منبج من أولى القواعد التي تستقبل عناصر التنظيم المتطرّف، والذين تقدر أعدادهم الآن بـ 7 آلاف عنصر، فضلاً عن كونها طريق إمداد رئيسي للتنظيم. وهي أيضاً طريق استراتيجيّ بينها وبين معقل التنظيم الرئيسي في الرقة، وبينها وبين اوروبا، ما جعلها قاعدة استقبال للمقاتلين من الخارج وتصديرهم منها الى اوروبا واماكن اخرى. وعلى المستوى التجاري تعتبر المدينة ايضا مقرّ بيت المال النفطي لداعش فعبرها يمرّ أهم طريق لـ"داعش" يصل الى تركيا.
في الوقت نفسه، تأتي منبج كبوابة الفرات تجاه دابق، الأبعد باتجاه الغرب، والقرية التي تعتمد عليها "داعش" في خطاب التجنيد والحشد، لكونها بحسب أدبياتها، "ستشهد الملحمة الكبرى ونهاية التاريخ"، ولعل هذا ما دفع "داعش" الى التوجّه نحو مارع، الملاصقة لدابق، والضغط على المعارضة هناك، وحصار المدينة، إذ إن فقدان داعش لدابق يعني عدم كفايتها وأهليتها وصدقيتها أمام مجندّيها.


خط أحمر لتركيا
وتُعَد تركيا الطرف الأكثر تضرراً جراء الاجتياح الكردي لما تبقى من مدن وبلدات الشريط الحدودي مع سوريا، لا سيما ما يتعلق بتقدم "قوات سوريا الديموقراطية" غرب نهر الفرات، الذي اشتهر بكونه خطاً أحمر تركياً، وضعت أنقرة كل ثقلها لمنع تجاوزه طيلة الأشهر الماضية من هذا العام. لذلك فإن إطلاق معركة منبج يعتبر بمثابة الصفعة القوية لصدقية أنقرة وهيبتها.
وتستشعر انقرة خطورة معركة منبج، خصوصاً ان هذا الجيب يقع في قلب منطقة "روج آفا" التي يريد أكراد إقامة حكم ذاتي فيها، وهي تسعى جاهدة لمنعهم من تحقيق حلمهم. ولعلّ الاميركيين يدركون جيداً هذه المخاوف، لذلك فقد قدّموا تطمينات للجانب التركي بأن نسبة القوات الكردية المشاركة لا تزيد عن خُمْس أو سدْس "قوات سوريا الديموقراطية". ولكن الأتراك يعلمون جيداً بأن التركيبة الفعلية لهذه المجموعة المسلحة مغايرة لما يقدّمه الأميركيون من معلومات، خصوصاً انه لا يخفى على احد ان "وحدات حماية الشعب" الكردية تشكل غالبية هذه القوات، لا بل انها هي الآمر الناهي فيها. وفي رأي انقرة ان اي تجاوز من هذه الوحدات للفرات يمثل اقتراباً للأكراد من تشكيل دولتهم، التي تمثل لتركيا خطراً قومياً، في ظل معركتها الطاحنة مع حزب العمال الكردستاني، الذي يمثل "حزب الاتحاد الديموقراطي"، ووحداته الشعبية، فرعه السوري، مما يعني تأمين عمق استراتيجي للأكراد وخطوط أمداد من داخل تركيا وسوريا واليهما.
وربما يكون عدم اقتناع الجانب التركي بالتطمينات الاميركية قد دفع الولايات المتحدة الى تقديم تطمينات اخرى غير مباشرة في الميدان، وهو ما يفسّر على سبيل المثال تعمّد الطائرات الأميركية تدمير جميع الجسور التي تربط بين ريف مدينة منبج وريف مدينة جرابلس ذات المعبر الحدودي مع تركيا. واذا كان الهدف المعلن من هذه الغارات هو تقطيع أوصال "داعش" ومنعه من استقدام تعزيزات من جرابلس نحو منبج، أو الانسحاب بالعكس، فإنّ ثمة من ينظر الى الامر باعتباره رسالة ضمانات لتركيا بأن الأمور لن تصل إلى أقصاها، ويتمثل ذلك في منع مقاتلي "قوات سوريا الديموقراطية" من الاقتراب من جرابلس بعد سيطرتهم على ريف منبج، وتاليا ضمّ قطاع عفرين إلى قطاع عين العرب (كوباني) لإتمام الكانتون الكردي في الشمال السوري.


انجاز انتخابيّ لواشنطن
بالنسبة الى الولايات المتحدة، يبدو اوباما، وقبل اشهر من الانتخابات الرئاسية، في حاجة الى تحقيق انجاز فعلي وملموس على الارض، ليكون بمثابة هدية انتخابية يمكن تقديمها لرفيقته في الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون التي تخوض منافسة شرسة، يُتوقع ان يحمى وطيسها أكثر فأكثر، أمام المرشح الجمهوري دونالد ترامب.
ومن غير الواضح، بعد ما اذا كان اوباما، وفريقه العسكري، قد استشعرا صعوبة الانخراط الكامل في معركة الرقّة، نظرا الى عوامل عسكرية صرفة، تتعلق بميزان الربح والخسارة في التقدّم نحو معقل "داعش" في سوريا، ولا سيما في ظل وجود مقاتلين أميركيين على الارض، وعوامل سياسية تتعلّق بالـ"فيتو" التركي غير المباشر، والواضح في آن معاً، تجاه هذه المعركة، ام انهما تعمّدا منذ البداية تظهير معركتي الرقة اعلامياً للتمويه على معركة منبج الفعلية.


وكر المجاهدين لأوروبا
واذا كانت الدوافع والاسباب في ما يتعلق بالحماس الكردي والدعم الاميركي والقلق التركي والاستماتة واضحة في الاندفاع نحو منبج او في الدفاع عنها، فإن الملفت في هذه العملية العسكرية هو كسر الاوروبيين للتفاهمات الاميركية والروسية عبر الدخول الفرنسي والألماني والبريطاني على الخط المباشر للعملية والذي كانت ابرز تجلياته في تجهيز مهبط مروحيات فرنسي في جبل مشتى شمال عين العرب عند الحدود التركية، واطلاق الاطراف المشاركة في العملية عملية تطويق عسكرية مشتركة لمنبج على عكس ما كان يحدث في المعارك السابقة على مدار الحرب السورية، والتطويق هنا يعني خنق العدو ودفعه الى امر من اثنين: الاستسلام او الموت. فما الدافع اذًا لهذا الدخول الاوروبي واستخدام أسلوب التطويق الكامل بعدم ترك ممرّ للانسحاب الآمن للمقاتلين المحاصرين؟
تعتبر مدينة منبج معقلا للمقاتلين البريطانيين والألمان والفرنسييين في سوريا وسميت المدينة عام 2014 بـ"لندن الصغيرة" حتى ان المار في شوارع منبج في نهاية العام الماضي بالكاد يجد من يتحدث العربية فمعظم المقاتلين الموجودين يتحدثون الألمانية والانكليزية والفرنسية، فيما فرّت الحاضنة العربية الشعبية من المدينة، وبقيت فيها العناصر العربية لدى "داعش" كما ان الجماعة الارهابية حولت المدينة الى مقرٍّ حصين لنساء واولاد وعائلات المهاجرين الآتين من اوروبا وباقي الدول حيث يقضي المقاتل الداعشي استراحته من الجبهات مع عائلته القادمة لزيارته. ولعل هذا ما يفسر الدخول الاوروبي على الخط ليس إلا محاولة لإخراج عملية منبج بطريقة تبدو أنها مشاركة فعلية من الائتلاف الغربي في تحرير مناطق من الارهاب، لكن باطنها ان تلك الدول لا تريد لأحد ان يستثمر في ملف المسلحين الاجانب الموجودين في منبج. وما إقامة مهابط المروحيات في المنطقة القديمة ووجود القوات الخاصة الفرنسية والبريطانية والألمانية الا لضمان القبض على أكبر عدد من المقاتلين الذين يحملون جنسيات بلادهم وتسهيل عمليات نقلهم الى بلدانهم للتحقيق معهم. فيما تستعدّ القوات الفرنسية والبريطانية والألمانية كما يبدو لذات السيناريو: نقل المسلحين الذي يحملون جنسيات تلك البلدان الى مكان مجهول. وقد أكّدت مصادر تركية ان اربع مروحيات عسكرية اميركية نقلت اسرى من "داعش" قبض عليهم في محيط منبج، عبر مهبط مروحيات شمال عين عيسى الى جهة مجهولة وهم يحملون جنسيات غربية وبينهم نساء، وقال ان هؤلاء نقلوا الى قاعدة اميركية في تركيا ومنها الى جهة اخرى.
وأياً كانت الاعتبارات ، فإن معركة منبج بحدّ ذاتها، وفي حال أُنجزت، ستكون نتيجتها أهم من معركتي الرقّة والفلوجة، نظرًا الى أبعادها الاستراتيجية ربحًا او خسارة لجميع المشاركين فيها.
amine.kamourieh@annahar.com.lb
Twiter:@amine_kam