جارموش وخودوروفسكي عرضا فيلمهما: في مهرجان كانّ هذه السنة الشعر يطبب الروح!

من أشياء بسيطة تولد أحياناً أفلام كبيرة وصادقة تعمّر في الأذهان وتصمد في الوجدان وقتاً طويلاً بعد خروجنا من الصالة والعودة مجدداً إلى صخب مهرجان كانّ (11 - 22 الجاري)، التظاهرة السينمائية الأضخم في العالم. في هذه الحال تركنا فيلم جيم جارموش الجديد، "باترسون" المتسابق على "السعفة الذهب". المخرج الأميركي المولود في كانّ العام 1984 مع "ستراينجرز دن بارادايز"، يقتفي هنا خطى سائق باص يُدعي باترسون (آدم درايفر) يعيش حياة رتيبة تتوزع بين ثلاثة أماكن: البيت الذي يتشاركه مع زوجته الفنانة (غولشيفته فراهاني) والباص، وأخيراً البار الذي يرتاده لتبادل أطراف حديث بلا معنى مع رواده.


باترسون وهو ايضاً اسم المدينة التي تجري فيها الحوادث - أو اللاحوادث - (ولاية نيو جرسي) رجل لديه كلّ مقوّمات العيش السليم، بيت وزوجة وعمل، الا ان حياته مسلوبة وسعادته مؤجلة وهي رهن القصائد التي ينظمها في دفتره الصغير. قليلاً قليلاً، يتحوّل الفيلم إلى احدى هذه القصائد البصرية العبثية التي يعرف جارموش كيف يوصل روحيتها إلى قلب المُشاهد من دون أن تبدو مدعية وممجوجة وثقفاوية، وطبعاً من دون أي لجوء إلى العواطف. هناك غمزات إلى هذا الشاعر وتلك المقولة، هذا طبيعي في فيلم لجارموش الذي شرب الأدب مع الحليب، واكتشف السينما الأميركية في نوادي باريس التي ارتادها في شبابه. في العشرين ذهب قاصداً العاصمة الفرنسية، بغية الالتحاق بجامعة، لكن سرعان ما وجد نفسه يتنقل من مكتبة سينمائية إلى أخرى بغية المشاهدة والاطلاع. وهذا ما فتح أمامه احتمالات كثيرة. في باريس، اكتشف أفلاماً لم يكن يعلم حتى انها موجودة.
في مشهد من الفيلم، يلتقي باترسون وهو جالس على المقعد في احدى الحدائق، يابانياً جاء إلى مدينة باترسون حباً بشاعرها الأهم، وليم كارلوس وليامز. قبل ان يفترقا، يهدي إلى صديقنا باترسون دفتراً صغيراً صفحاته عذراء، ذلك ان الصفحة البيضاء حيث لا شيء مكتوب، تطرح احتمالات أكبر. كلّ باترسون في هذه العبارة؛ فهو إنسان أقرب ما يمكن أن يكون إلى الصفحة البيضاء، ينتظر أن تكتب الحياة عليها ابداعاتها. في انتظار تلك الحياة التي لا تأتي، نتابع حياته اليومية التي يصوّرها جارموش على شكل لازمة وتكرار، ومع كلّ تكرار جديد يضيف اليه عنصراً جديداً يدفع بالسرد إلى نقطة الختام. الفيلم جارموشي في أدق تفاصيله، وكما كان أعلن سابقاً المدير الفني لكانّ تييري فريمو، فإنه ينطوي على هواجسه التصويرية وشخصياته المنبثقة من تقليد السينما الأميركية المستقلة والحوارات الذكية. انه، باختصار، فيلم يمثّل عودة جارموش إلى جارموشيته المحببة، بعد أفلام عدة خرج بها عن اطاره المعهود. طبعاً، تضاف إلى كلّ ما سبق صنعة جيدة وحرفة يمتلك جارموش أهليتها منذ اطلالاته الأولى على السينما في ثمانينات القرن الماضي. هناك انتقاء مغاير للشريط الصوتي وخيارات فنية ندين بها إلى ذهنية جارموش في رفض ما هو "استيتيكي". قبل سنوات، في احد الدروس السينمائية، كان يقول الآتي: "ألملم أشياء من هنا وهناك: مشاهد من فيلم، لوحة، مخطوطة، الخ. هكذا نبني الوحي. لديّ تقنية واضحة وهي ادارة الظهر لكل ما يثير الدهشة. بمعنى آخر، في كلّ مرة أرى شيئاً جميلاً، أقدم على تصوير الشيء المقابل لهذا الشيء الجميل، يعني انني أصوّر نقيضه. اذا كان ما يدهشني هو شجرة عملاقة، فأحاول أن أجد شجرة صغيرة لأصورها".
آدام درايف في دور باترسون، يسحق القلب. أداؤه ممسوك وباطني وتعابيره مقتصدة. أما البقعة الجغرافية التي تؤويه فتصبح أمام كاميرا جارموش فضاء للحرية والفنّ والفانتازيا. الا ان الحقيقة المعيشة مختلفة تماماً، وهي تتجلى في حكايات ركّاب الباص الذين يصعدون مع باترسون يومياً. باترسون حالمٌ لا يعرف فعلاً ماذا يريد من الوجود، يتناول فطيرة زوجته الجميلة الناعمة التي تلازم المنزل طوال الوقت. فطيرة تبدو شهية الا اننا لا نشعر للحظة بأنه يستطعم بما يضعه تحت لسانه. هذه صورة للحياة التي يعيشها، بلا لون أو طعم، فيلجأ إلى الشعر. هناك القليل من باترسون في كلّ منّا.
¶¶¶
الشعر هو أيضاً المادة الأساسية لفيلم المخرج التشيلياني الكبير أليخاندرو خودوروفسكي، "شعر بلا نهاية"، المعروض في "اسبوعا المخرجين"، الذي استُقبل استقبال الجبابرة يوم عرضه مساء السبت. وكان لـ"النهار" في اليوم التالي مقابلة مع صاحب "الجبل المقدس" ننشرها قريباً. الفيلم هو نوعاً ما امتداد لـ"رقصة الواقع" الذي عُرض في العام 2013، وقد لجأ خودوروفسكي للمرة الثانية إلى التمويل الشعبي عبر التبرع الالكتروني، بحيث شارك سبعة آلاف محبّ لفنّه في التبرع له. النتيجة مبهرة على الأصعدة كافة: صورةً (كريس دويل) واخراجاً وتمثيلاً ونصاً وأفكاراً. خودوروفسكي وظّف كلّ جنونه الذي لا حدود له في هذا العمل الممتع الذي يعيدنا إلى سنوات صباه في سانتياغو خلال أربعينات القرن الفائت وخمسيناته. آنذاك كان له حلم واحد: الشعر. العائلة عارضت، لكن المراهق الذي كانه، أصرّ. في المقابلة، أخبرني انه لم يسامح والده الا عندما بلغ الثمانين. هو اليوم في السابعة والثمانين، وينبض بالحياة والديناميكية، وفيلمه هذا أكبر دليل على الحرية الواسعة التي يتحرّك داخلها.
ينخرط خودوروفسكي المخبول في حياة البوهيميا المعطوفة على عوالم انريكه لين وستيللا دياز وكلّ الذين سيصبحون لاحقاً أيقونات أميركا اللاتينية في الأدب والشعر. كلّ شيء سيعيشه اليخاندرو البتول إلى أقصاه، الجنس والفنّ، والحياة نفسها. "شعر بلا نهاية"، كوكتيل من البصريات ينعتها المخرج بـ"البسيكو ساحر". بين السيرك والمشاهد الحميمية، العيون تحار، فنخرج بإحساس بالغ بالسعادة.
خودوروفسكي، المعروف بميله الفطري إلى الاستفزاز وقلب الطاولة على الرؤوس يقول دائماً انه لا يصنع الأفلام لكسب المال بل ليخسره. عندما جاء الى كانّ في العام 2013 مع "رقصة الواقع"، نُقل عنه امتعاضه من تحويل كلّ شيء إلى اعلان وصفقات وسلعة، معترضاً على الآلة الدعائية التي خلف فيلم مثل "غاتسبي العظيم"، الذي جعل ليو دي كابريو مجرد "عاهر عليه أن يخجل من نفسه".
المخرج الذي "يقدّس" الكثير من السينيفيليين أفلامه، كائن كوزموبوليتي مسكون بالقلق وهموم العصر، أوكراني الأصل، تشيلياني الجنسية، فرنسي الاقامة، أنجز أعمالاً تتعايش فيها الروح اليديشية مع تقاليد من أميركا اللاتينية. "أنا كالمطر، أذهب حيث يحتاجونني"، يؤكد الرجل البشوش الذي يحملنا إلى ماضيه وشبابه الملونين بألوان قوس القزح، حيث بعض الأشكال الفنية تذكّر برولان توبور، "صديقي الذي كان أكثر تشاؤماً مني". هذا كله وسط أجواء فانتازية مشبّعة بالموسيقى وغبطة مشاركة فيلم مع الآخر التي نجدها في السينما اللاتينية. هذا الفنان الشامل المتضلع من "التارو" الذي قارب أكثر من فنّ واختصاص (أدب، موسيقى، مسرح، سينما)، "مهرج" تتلمذ على يد مارسيل مارسو في فنّ الإيماء، وأدار موريس شوفالييه في ميوزيك هول، وأثار انتباه جون لينون حدّ ان الأخير جمع له المال لينجز "الجبل المقدس" في العام ١٩٧٣. في أحد تصريحاته لإحدى الصحف صرح بأن "أيّ شخص يعتقد أنه سيطعن في السنّ ويموت لديه مشكلة حقيقية"، مؤكداً انه سيعيش 120 عاماً، وان الناس يعتقدونه مجنوناً، لكن كلّ ما يفعله، هو شخصياً، تطبيب روحه.


hauvick.habechian@annahar.com.lb