كتاب - "أفكار للصفحة الأخيرة" لمحسن إ. يمين: هاجساه المواطَنة والإنسانيّة

جان هاشم

عهدنا محسن إ. يمين، في مختلف مؤلَّفاته، باحثاً في تاريخ منطقته ولبنان، لكنه في كتابه الصادر أخيراً، "أفكار للصفحة الأخيرة"، وهو مجموعة مقالات له منشورة في بعض الصحف اللبنانية، وجريدة "المستقبل" على الأخصّ، توسّع إلى النقد السياسي والاجتماعي، ومن دون أن تتعطّل عنده وظيفة العين الراصدة المدوِّنة والأذن الحسّاسة اللاقطة.


أوّل ما يمكن قوله في الكتاب أنه التقاط للحظات، مقالاته "ابنة اللحظة هي" كما يؤكّد الكاتب في مقدّمته. وليس أصعب من التقاط اللحظة، إنها اللحظة الشاعرية، نواة كلّ قصيدة، هي روح الشعر وجوهره. يشدّد محسن على اللمحة أو الفكرة، محرّضاً الخيال على تمثّل الحال المعبّرة عن أعماق الذات الإنسانية، واختلاجاتها وتفاعلاتها مع العالم المحيط. من عالم الخيال ينزلنا محسن إلى عالم الواقع والحياة اليومية، فتنقسم مقالاته بشكلٍ أساسيّ بين نوعين: السياسي والاجتماعي الانساني. وفي النوعين يسكن الكاتبَ هاجسُ المواطنة والإنسانية. السياسي عنده ليس من النوع المبتذل الذي نقرأه ونسمعه كل يوم بل من النوع البسيط البريء الساخر المعبِّر الصادق الذي نسمعه ونلمسه عند المواطن العادي في أحاديثه اليومية. أما الاجتماعي- الانساني فيتناول مجرى الحياة في بعض الأمكنة، وبعض الظواهر البشرية المحلّية أو بعض الحوادث البسيطة أو الحالات السائدة، فيرويها إما على شكل طرفة مضحكة وإما على شكل نادرة تثير الدهشة والاستغراب أو يسوقها على سبيل النقد الاجتماعي البنّاء.
من الأماكن في الكتاب المقهى، وسلوك الزبائن المداومين فيه وأحاديثهم. ومن تلك الظواهر البشرية، صاحب المقهى الطريف الشخصية، أو أحد روّاده، كارلوس، المعلّق والناقد الاجتماعي الظريف. ومن الأماكن المجلس الأدبي (أو الديوان كما يسميه الكاتب) بيت الشيخ ناصيف الشمرّ وشخصية صاحبه المضياف الدقيق في كل تصرفاته، الساهر على خدمة كل باحث وطالب خدمة. ومن الحوادث أو الوقائع قصة المرأة الفلسطينية التي انتُشلت حيّة من تحت الانقاض (رمز انبعاث فلسطين). ومن السياسيّ إلى الغرائبيّ والنوادر أو الطرائف المضحكة، يسقطها على حالات اجتماعية أو سياسيّة، فتأتي من المضحك المبكي أحياناً، وأحياناً ينقلها لمجرّد الإضحاك والإعجاب، وهنا يمكننا تبيّن براعة الكاتب في صياغة "الخبريّة" أو الحكاية في العدد القليل من الكلمات. ومن الموضوعات التي يتناولها الكاتب الأماكن، الرحب منها (المتحف الوطني، الساحات العامّة) والضيّق الحميم (سيارات التاكسي) وما يدور فيها من أحاديث، وهناك أيضاً "الحالات" (ناس التلفزيونات، لغة تجار السيارات).
يتحوّل يمّين في كتابه هذا من العام الشامل إلى الخاص اليوميّ، أعني إلى نماذج اجتماعية فريدة وفذّة، أو إلى أخبار ووقائع بسيطة في حدوثها، مهمة في دلالاتها، وهو طبعاً بتناوله هذا النماذج الحيّة أو الجامدة يؤدي، كعهدنا به، دوراً توثيقياً للحياة اليومية في المجتمع، لكنه يزيد تعبيراً عن إعجاب أو عاطفة لا يتسنّى له التعبير عنهما كباحث موضوعي في أعماله الأخرى. كأنه بدأ مرحلة الانتقال من جفاف البحث والتنقيب إلى طلاوة الذاتي التعبيريّ!
يتميّز أسلوب محسن إ. يمين بالرصانة، إنه أسلوب مقتضب موجز من نوع المختصر المفيد (الكلام على الجريدة ودورها وموقعها في الحياة اليومية، وصف القهوة ومنزلتها في مجتمعنا)، كما لا يفوتنا عنده نحتُه بعض الكلمات (يتقهوَنوا) ولا استعاراته المضحكة المراعية لمقتضى الحال (لكمة تخرج أمعاء المنبِّه المعدنية) أو المستحبّة الشاعرية (يفتح عيون الفجر). كما تطالعنا في هذه المقالات قدرته على الصياغة السرديّة المشوّقة، وهنا تبرز قدرته على تكثيف اللحظة، فيشدّ على الكلمات ويحاصر بها المعنى ليتجلّى لنا بوضوحه المكثّف، فينطبع صورة في مخيلتنا كما أراد لها أن تكون. نراه في وصف الفصول يقول "كانّ كل فصل ساعته بيده" أو في قلب قول مأثور "عين لا تقشع قلب لا يوجع" فيتلاعب بالكلمات ليولِّد الأثر الذي أراده من المقال (حول حوادث السير) لتصبح "فلنترك العين تقشع، لعلّ القلب يوجع"، أو في إخبارنا عن الوالد البشراوي الذي وهب أعضاء ابنه الذي توفّي بحادث مفجع. نرى كم هو مؤثّر ذاك المقطع الذي يخبر عن شخصين استفادا من قرنيّتي عينيه: "وعمّا قريب سيبصر اثنان بقرنيّتيه اللتين طالما تكحّلتا بمرأى الأرز، ومطارح طفولة جبران خليل جبران وفتوّته، وأغوار الوادي المقدَّس". نتصوَّر كيف أعاد محسن الولد إلى الأماكن عبر عينيه الموهوبتين، وهي الأماكن التي بالطبع كان الوالدان يريان ابنهما فيها لو ظلّ على قيد الحياة. أما في سرد الطرائف والنوادر، فنلمس عنده هذه القدرة نفسها على نقل الوقائع وتمثيل الحال بأقلّ الكلام وأعمق الأثر، سواء أراد الإرشاد أو الإضحاك وحسب. كما تلفتنا قدرة محسن على نقل الدقائق والتفاصيل في أقلّ الكلام، ناهيك بما في أسلوبه من لمحات شاعرية، إن على مستوى التركيب اللفظي، أو على مستوى الصورة الموحية.
ليس محسن إ. يمين بعيداً عن أمين نخلة، ولا عن مارون عبود أو توفيق يوسف عواد ممّن شغلهم المجتمع اللبناني وهمّهم الإنسان، هواجسهم في بعض النواحي مشتركة، لكن محسن عرف كيف يصنع لنفسه أسلوباً خاصاً تميَّز به. وليس هو أيضاً بعيداً عن جان دو لا برويار في كتابه "الطبائع"، ببعده الأخلاقي والإنساني، وهو مثله أراد "الإعجاب والتثقيف" كما يقول لا برويار في دور الكاتب، وهذا ما نلمسه عنده فعلاً، حسّ المواطنة والإنسانية، إضافة إلى مثابرة على ترسيخ الذاكرة وزرع المحبة، محبة الناس والأرض والمكان والوطن.