آرنو دبلشان الفائز بـ"سيزار" أفضل مخرج: الأجانب هم الذين جعلوني أكتشف هويتي الفرنسية

بتسعة أفلام روائية طويلة، طُرح آرنو دبلشان (1960) كواحد من المؤلفين البارزين في السينما الفرنسية والأوروبية المعاصرة. من سينمائي "مختلف"، يعمل في الظلّ في بداية التسعينات، انتقل ليصبح من القامات الكبرى مع مطلع القرن الحالي، خصوصاً بعد تبنّي مهرجان كانّ أفلامه. انه على غرار ليوس كاراكس وأوليفييه أساياس، من الأصوات الفريدة في المشهد البصري الفرنسي. بخلاف الكثير من أبناء جيله - الباريسيين تحديداً -، اتجه دبلشان المولود في روبيه، إلى سينما خالصة تستلهم مفرداتها من التراث الفيلمي نفسه، بعيداً من أيّ همّ في تقديم نصوص تتسم بواقعية اجتماعية. أعماله التي تلتفت عموماً إلى الفرد وهواجسه وأزماته، استقطبت الجمهور، وأغوت النقّاد الذين وقفوا إلى جانبه ضدّ نقّاد آخرين. سينماه مسكونة بقلق الموت والوجود، تماماً كما عند معلمه برغمان، ومشبعة بالعواطف الجياشة وخيبات الأمل الفظيعة والعلاقات المكلومة. كينونة الممثل وما في داخله يلقيان بظلالهما دائماً على نصوصه التي تمتاز بالصبغة الشخصية. يقول مخرج "ملوك وملكة"ان الأحاسيس هي أفكار، ثم ينظر إليك بعينيه الهادئتين وصوته الدافئ المسموع بالكاد. التقته "النهار" في مقابلة خاصة قبل أشهر يوم وجّه إليه مهرجان تسالونيك تحية، مع استعادة عدد من أفلامه. كنا شاهدنا له في كانّ، قبل ستة أشهر من ذلك التاريخ، رائعته "ثلاث ذكريات من شبابي"، وقبل أيام قليلة، نال عنه "سيزار" أفضل مخرج.



 


* في أي سنّ بدأتَ تشاهد الأفلام؟


- كنت يافعاً. ربما لم أكن بذلك اليفاع، لأن أصولي من الريف. نشأتُ في روبيه قرب ليل، وهي مدينة صغيرة على الحدود بين فرنسا وبلجيكا، حيث صوّرتُ عدداً لا بأس به من أفلامي. ارتياد السينما كان لنا "ضهرة". بدأتُ أشاهد أفلاماً عادية جداً، أفلام والت ديزني ولوي دو فونيس على سبيل المثل. ثمة شيء هزّ كياني خلال حياتي السينيفيلية وأدركته لاحقاً وهو الأفلام التي شاهدتها على التلفزيون في بيت جدّي، فوالداي لم يمتلكا تلفزيوناً في المنزل. هكذا اكتشفتُ أفلام هيتشكوك، قبل أن يتمّ حجبها طوال 15 سنة لأسباب متعلقة بالحقوق. أكلمك عن نهاية الستينات. حتى في الولايات المتحدة، أفلام هيتشكوك عُرضت في مرحلة متأخرة. كانت أفلاماً نادرة. "فرتيغو" عُرف في الولايات المتحدة لأنّ سكورسيزي كان يمتلك نسخة 16 ملم منه. لم يشاهده أحدٌ قبل ذلك، رغم أنّ الكلّ كان يتحدث عنه. شاهدتُ كلّ هذه الأفلام عند مرورها على التلفزيون فتركت فيّ أثراً عميقاً. أتذكّر "مارني" و"نوتوريوس"، وكلاهما لهيتشكوك. صُدمنا ونحن نكتشف الحسيّة لدى هيتشكوك، وأيضاً عالمه النسائي واللغز المرتبط بالجنس الذي جذبني كثيراً.


* في كل حال، تحدثتَ عن تأثرك بهيتشكوك في فيلم كَنت جونز. ولكن، قل لي، متى بدأتَ تهتم بالسينما الفرنسية؟


- لا أعرف ما هي الأحوال عندكم، ولكن لفترة طويلة في فرنسا، كنّا نصنع الأفلام لأننا في حال حرب ضد أفلام بلادنا. هذه الفكرة انسحبت أيضاً على الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا. كنتُ في صراع ضد السينما الفرنسية التي لم تهمني الا قليلاً. رفضتها. كنت مبهوراً بالسينما الأميركية. حتى "الموجة الجديدة" جاءت في مرحلة لاحقة جداً. كنتُ طبعاً، ككلفرنسي، غودارياً متعصباً في عمر السادسة عشرة. من الطريف أنّ تروفو، الذي أعتبره اليوم أعزّ المخرجين لي، لم أقدّر قيمته إلا بعد وقت طويل. السبب أنّ هذه الأفلام عرّفني إليها الكبار في السنّ. أنا شخصياً، لم أحبّ هذا. بالنسبة إليّ، كانت الأفلام تنتمي الى الطفولة. لذا، ليس عندي ذكريات قوية تتعلّق بالسينما الفرنسية. لكن، على سبيل المثل، أتذكّر جيداً "آلام جانّ دارك" لدريير. شاهدته في عمر مبكر جداً. أبهرني أيضاً "أورديت" لدريير، مثلما أبهرتني التعبيرية الألمانية في عمر الثالثة عشرة. "نوسفيراتو" مثلاً.



 


* من أي فئة اجتماعية تتحدّر؟ هل وُجد في محيطك مَن يهتم بالسينما؟


- نعم. أهلي أناس متواضعون لكنهم يهتمون بالثقافة. كان والدي مندوباً وأمي تدير شؤون المنزل. لكنهما كانا يرتادان السينما بانتظام، ثم يناقشان الأفلام عند عودتهما الى المنزل. كان يعجبني فيهما استماعهما إلى برنامج اذاعي كان مشهوراً في فرنسا وقتذاك ويناقش الأفلام مع متخصصين. كانت تبهرني فكرة أن يتكلّم راشدون عن أشياء كنت أعتبرها موجهة إليَّ، أنا الولد. كنت أسمعهم يناقشون أحدث أفلام بولانسكي، وكلني ثقة بأن أفلامه ملكيتي وليست ملكيتهم. لطالما أبهرني الخطاب النقدي الفرنسي حول الأفلام. أنت كطفل، عندما تلعب لعبة القطار الكهربائي، لن يشاركك كبار العمر فيها. أما الأفلام التي هي أعظم لعبة في العالم كما قال أورسون وَلز، فكان الراشدون مشغوفين بها، يهتمون بها ويناقشونها. من جانبي، كنت مولعاً بكلّ هذا الضجيج حول الأفلام.


* أيّ الأفلام كان في مقدورك مشاهدتها في روبيه أثناء طفولتك؟ هل كانت الأفلام غير التجارية متوافرة؟


- لا. تلك الأفلام بدأتُ أشاهدها في مرحلة المراهقة حين بدأتُ أقصد ليل، المدينة الكبيرة حيث معهد السينما. شهدت تلك الفترة صعود السينما الألمانية، مع أسماء مثل فندرز وهرتزوغ وفاسبيندر، وكان معلّمو السينما الايطالية لا يزالون في ذروة نشاطهم، وكان أعظمهم فيلليني. في هذا الجو، اكتشفنا السينما الألمانية التي صفعتنا صفعة كبيرة، ولكن هذا كله، اكتشفناه بعيداً من روبيه، أيام الجامعة.



 


* ماذا عن ألان رينه الذي تعتبره اليوم أحد أسيادك؟


- رينه دخل حياتي لاحقاً، وتحديداً عندما وصلتُ الى باريس. ربما، لأنني كنت أجهل أيّ موقف أخذه من "الموجة الجديدة"، وكان رينه يبهرني خصوصاً بسبب مكوثه على مسافة معينة من "الموجة". أبهرني فيه شيئان: قدرته على التحدث عن المحرقة وحرب الجزائر وحرب اسبانيا وكان في امكانه إدخال كلّ أنواع الدراما السياسية في سينماه طوال الجزء الأول من فيلموغرافيته المسكونة باضطرابات العصر. اكبابه على التاريخ أغواني جداً. وطبعاً التكامل الشكلاني الذي حلّ عليَّ بمثابة صدمة. نزل "عناية آلهية" الى الصالات قبل وصولي الى باريس بفترة قصيرة. كان الفيلم ناطقاً باللغة الانكليزية وتسبب لي بدهشة كبيرة. لم أكن أعلم أنّ في امكان فرنسيين أن ينجزوا أفلاماً على هذا القدر من الجمال. في باريس، اكتشفتُ السينما الأميركية الجديدة. تخيل أننا كنا نشاهد فيلماً عبقرياً كلّ اسبوع. أميركا كانت مصدر إبهاري الأول. في أحد الأيام، كنّا نكتشف مارتن سكورسيزي وفي اليوم التالي نكتشف جو دانته. هذه الطفرة في السينما الأميركية، من كوبولا الى دو بالما، لم تكن حظيت بعد باعتراف الصحافة الفرنسية المتخصصة. كانوا يعتبرونها سينما "الزعران". لكنها، في هاتيك الأيام، كانت تمثل السينما التي يتوق إليها جيلنا. عندما تخرّجتُ من معهد السينما، عدتُ أفكّر في البلد الذي أنتمي اليه، وبدأتُ أبحث عن بوصلة، فعدتُ الى السينما الفرنسية، وهنا ساعدني رينه وتروفو لاتمام هذه الوظيفة.


* هل انبهارك بالسينما والثقافة الأميركية هو الذي جعلك تصوّر أيضاً بالانكليزية؟


- لا أعتقد. ربما السبب وراء ذلك أن تروفو أنجز فيلمين بالانكليزية، هما "فاهرنهايت 451" و"أديل هـ."، مع أنّ لغته الانكليزية كانت سيئة جداً. أنجزتُ هذين الفيلمين ربما لأنني قارئ أدب باللغة الانكليزية. الامتناع عن نقل حكاية من بقعة الى أخرى سلوك فرنسي بامتياز. خطرت لي هذه الفكرة وأنا أنجز "أستير كانّ". مثلاً، عندما صوّر رومير رواية "ماركيز دو"لهنريش كلايست، صوّرها باللغة الألمانية وفي ألمانيا. هذه فكرة فرنسية جداً، خلافاً للأميركي الذي يأخد أي كتاب وينقل حوادثه الى أميركا.



 


* رغم عدم اهتمامك بالسينما الفرنسية إلا في مرحلة لاحقة من تأهيلك السينيفيلي، إلا إنك فرنسي جداً في مقاربتك للسينما...


- الأجانب هم الذين يعلمونني هذا الأمر عن نفسي. أدركت ذلك وأنا أعرض أفلامي خارج فرنسا. رافقتها في كلّ مكان. الآخرون جعلوني أفهم أنني فرنسي. بيد أنّ أحد الجوانب الأكثر فرنسية لسينماي هو الشغف بالسينما الشعبية الأميركية. وهذا الشغف يتمثل في التقاط ما هو فني داخل أفلام من الدرجة الثانية. يروق لي هذا لأنني لا أحبّ الفصل بين الأنواع السينمائية. ثمة لغزٌ أميركي استمرّ وقتاً طويلاً، تحديداً منذ نهاية السينما الصامتة وصولاً الى أواخر سنوات التسعين أو حتى الألفين، وتأتى هذا اللغز من كون السينما الأميركية التي تنتمي الى الصناعة تنطوي على أبعاد فنية وجمالية بقدر انطواء سينما المؤلف عليها. هناك فنّ عند سكورسيزي بقدر وجوده عند يوناس ميكاس. لا يمكن القول إنّ أحدهم نبيلٌ والآخر لا. الصناعة في أميركا قدّمت أفلاماً مهمة تثير الشغف. وهذا هو الفرق بينها وبين السينما الفرنسية مثلاً التي نرى فيها أفلاماً تنتمي الى الصناعة لكنها ليست بجودة السينما الأميركية. أتكلّم بصيغة الماضي، أو الماضي القريب، لأن السينما الأميركية نفسها التي كانت مصدر دهشة لنا، لم تعد كما كانت في السابق. ربما لأنني صرت أتقدّم في السنّ، أو ربما أكون على خطأ، ولكن يبدو لي أنها لم تعد ما كانت عليه سابقاً. اليوم، سينما المؤلف الأميركية أكثر إثارة للاهتمام من السينما المنتشرة بكثرة.


* عملتَ أيضاً مديراً للتصوير. ما الذي دفعك الى تلك التجربة؟ هل كنت مهتماً بالجانب التشكيلي للأفلام في مرحلة ما؟


- كان شيئاً في منتهى الأهمية. بللتُ يدي في كلّ المهن السينمائية. عملتُ في المونتاج، وكتبتُ السيناريو كما عملتُ مديراً للتصوير. هذا ساعدني كثيراً، خصوصاً في أول أفلامي، وكان شرطاً من شروط استقلاليتي المهنية. كنت في كلّ مرة تحدث مشكلة، أحلّها بنفسي. هذه ثمرة معهد السينما الذي التحقتُ به.


* مع مرّ السنوات، هل أصبح تمويل أفلامك أكثر سهولة؟


- لا. لم يتغير الكثير في هذا الصدد. صار أسهل قليلاً، لأنني تقدمتُ في السنّ. في المقابل، ازدادت شؤون الانتاج تعقيداً لأن الوضع الاقتصادي للسينما في انهيار. ما ربحته هنا خسرته هناك. أنجزتُ كلّ أفلامي مع المنتج نفسه. أفكّر دائماً كما كان يفكر تروفو لا رينه، وهو أن نعبّر - إذا أمكن - بموازنة أكثر تواضعاً. لا أزال أؤمن أنّ فرنسا ليست دولة عظمى كالصين والولايات المتحدة. جمهور أفلامنا أقل من جماهير الأفلام الصينية أو الأميركية. 60 مليون فرنسي، هذا رقم لا بأس به، لكنه محدود. أعرف كيف أصنع فيلماً يبدو مظهره حسناً مع القليل من المال، لذلك لا أجد صعوبة في تمويله.


* أجدك مهتماً بالذهاب الى لقاء المشاهدين للتعريف عن عملك. وجودك هنا في تسالونيك خير دليل...


- نعم، يهمني جداً هذا الأمر. قبلتُ سفرات كثيرة لتقديم "3 ذكريات من شبابي". قبل تسالونيك، كنت في الأرجنتين التي زرتها للمرة الأولى مع أن خمسة من أفلامي سبق أن وُزّعت هناك، ولكن لم يكن عندي متسّع من الوقت لأزورها والتقي الجمهور والنقّاد. أما اليونان، فسبق أن أتيتُ اليها يوم عملتُ مديراً للتصوير على الفيلم ما قبل الأخير لباباداكيس في مختبر في اثينا. كان ذلك قبل 25 عاماً. أتذكر يوم ذهبتُ الى مهرجان نيويورك الذي كان اختار فيلمي الأول، هناك عرفت الكثير عن ذاتي من خلال اللقاء بالجمهور. وكذا بالنسبة إلى انكلترا واليابان.



 


* نصل الى فيلمك الجديد: "3 ذكريات من شبابي". في رأيي، هذا أفضل عمل لك الى اليوم. ما رأيك؟


- يمسّني كثيراً مثل هذا الرأي. ثمة شيء يلمس أحاسيسي في هذا الفيلم. فيه صبا كأنه أول عمل أنجزه، وفيه التأكيد الذي ينطوي عليه عادةً الفيلم الأول. لهذا السبب يروقني ما تقوله.


* هل كنت تخطط لإتمامه منذ زمن طويل؟


- بدأتُ بكتابة السيناريو خلال العمل على مونتاج "جيمي ب.". كنت دوّنتُ بعض الأفكار قبل تلك الفترة. لكنني كنت خائفاً ألاّ أكون قادراً على الكتابة لشخصيات صغيرة في السن. عملتُ دائماً على شخصيات في عمر الثلاثين وما فوق. كنت أيضاً متوجساً من فكرة العمل مع ممثلين غير محترفين. في مرحلة، تساءلتُ اذا كان في إمكاني أن اطلب أداء بارعاً - كما أفعل عادة - من أشخاص هم في سنّ شابة جداً. كان عندي في الوقت نفسه رغبة كبيرة وخوفٌ كبير. لطالما، كنت مهووساً بفيلم لكوبولا يدعى "ذي اوتسايدرز" الذي صوّره المخرج مع شلّة من المراهقين. فبعد "جيمي ب." بدأتُ بلملمة أفكاري لتحقيق المشروع، وسارت الأمور بسرعة كبيرة.


* كيف تصف تجربة العمل مع ماتيو أمالريك الذي أدرته في أكثر من فيلم؟


- أراها تجربة رائعة. أول ظهور له على الشاشة كان في فيلم "كيف تشاجرت"، آنذاك لم يكن ممثلاً. ثم أنجزنا معاً "ملوك وملكة"، و"حكاية ميلادية" و"جيمي ب."، والآن هذا. انه أمر مؤثر جداً أن تصوّر شخصاً يكبر في السنّ. في مجال الصداقة، يسعدني أيضاً تكريسه كسينمائي. لدى ماتيو جانب رياضي متمرس. مشاهده قليلة في "3 ذكريات من شبابي"، لكنه يمنح الفيلم ايقاعاً فيتحوّل الى قلبه. أداء يمزّق القلب، غضبه لا يهدأ، الى درجة انني انحنيتُ أمامه. العمل معه أيضاً نوع من صداقة تبلورت عبر السنين. فنحن نعمل معاً منذ 20عاماً.


* المفارقة أنّ الممثل هنا يشيخ لكن المخرج (انت) يستعيد شبابه بفيلم نضر وطازج...


- (ضحك) تماماً.


* عدم اختيار الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كانّ الأخير أحدث جدلاً في الأوساط السينمائية. كيف عشتَ ذلك؟


- أذهب الى حيث تتم دعوتي. أدوار فنتروب، المسؤول عن قسم "اسبوعا المخرجين"، شاهد الفيلم وتأثر به فبعث إليَّ برسالة. عادة، المنتج هو الذي يتلقى رسائل كهذه. لم أكن أعرف من أين جاء بعنوان بريدي الالكتروني. أخبرت المنتج عن مضمون الرسالة وقلتُ له: سينتهي أمرنا في "اسبوعا المخرجين". وهكذا كان. طبعاً، من الصعب جداً أن تشارك في هذا القسم، لأنك لا تحظى بالاهتمام نفسه الذي تناله أفلام المسابقة الرسمية. ولكن اتيح لنا أن تشتري شركة "ماغنوليا بيكتشرز" حقوق توزيع الفيلم في الولايات المتحدة. كنت أحلم بالعمل معهم منذ زمن بعيد.



 


* ألا تحتاج الى فترة استراحة بين فيلم وآخر؟


- يتوقف هذا على الفيلم. هذه المرة، نعم، أحتاجها. بعد شهرين من إتمامي "جيمي ب."، صوّرتُ فيلماً للتلفزيون. اقتباس لمسرحية على نسق فيلم لوي مال "فانيا شارع 42". صوّرناه مع ممثلين أعضاء في "الكوميدي فرانسيز". صوّرناه بسرعة، وما إن انتهيتُ منه حتى باشرتُ العمل على "3 ذكريات". ثم أخرجتُ مسرحية للمرة الأولى في حياتي. من المفترض أن أصوّر فيلماً جديداً الصيف المقبل، لكني أتساءل: أيجب أن أتابع العمل بلا توقف كما يفعل بونوا جاكو أم ينبغي لي أن آخذ وقتي أكثر. شخصياً، أخضع دائماً للسيناريو وهو الذي يقودني. أنا تلميذ أفلامي ولستُ بروفسورها.


* أتتعقب كلّ مراحل إنجاز الفيلم؟


- نعم، أنا متوّرط جداً في عملية صنع الفيلم. شيء واحد فقط - ويمكن أن يكون هذا خطأ - لا أهتم به البتة، هو التوزيع. هكذا أتفقتُ مع المنتج باسكال كوشتو منذ بداية عملنا معاً، أي منذ انطلاقتي. قد يكون لي رأيٌ بملصق الفيلم، ولكن ثمة أشياء تتخطاني، لا سيما كلّ ما يتعلق بكيفية تسويق الفيلم وترويجه.


* هل تجربتك خارج فرنسا كانت مختلفة جداً عن تجربتك داخلها؟


- الفيلمان اللذان صورتهما خارج فرنسا كانا عن العزلة وعن شخصيات تعيش الوحدة. لذا، شكّلت عملية إنجازهما بهجة أقل. "جيمي ب." من الأفلام الغامضة، من أقل أعمالي انفتاحاً على الجماهيرية الواسعة. الصعوبة كمنت في كونهما فيلمين تجري حوادثهما في حقبة معينة. لا أشاهد أفلامي البتة، ولكن مساء أمس وجدتُ احدها يُعرَض على التلفزيون وأنا أقلّب المحطات، فقلتُ لشريكتي ان الفيلم "يشبه شيئا ما" ولا بأس به. كنا نملك القليل من المال لإنجاز "أستير كانّ"، وطبعاً قلة المال تعني قلة وقت. ربما كان ينبغي لي أن أعدّل السيناريو لجعله راديكالياً... لكن التجربة كانت لا بأس بها. تعلّمتُ أشياء كثيرة وأنا أصوّر. شعرتُ بأنني جون فورد، مكتفياً بتصوير المشهد مرة واحدة، في حين أنني أقوم عادة بتصوير عدد أكثر من المَشاهد...



 


* ... أتعيد كثيراً؟


- لا أعيد البتة، بل أصوّر الكثير من المشاهد. اصوّر المشهد بطرق مختلفة. قد يراوح العدد من مرة الى 30 مرة. اصوّر تنويعات.


* ولكن، لماذا لا تشاهد أفلامك؟


- لأنني لم أعد قادراً على تغييرها. في كلّ مرة أشاهدها، أضع ملاحظات كثيرة، ملاحظات لم تعد مجدية...


* قد يصبح تعديلها ممكناً بعد عشرين عاماً، عندما يصبح التطور التكنولوجي جاهزاً له...


- للمناسبة، رممتُ بعض أفلامي، فأتيح لي تعديل بعض التفاصيل الجمالية كي تصبح الصورة أكثر جمالاً. نعم، التكنولوجيا سمحت لي بذلك.



 


* هل أنت من المخرجين الذين يستلهمون من الحياة أم من السينما؟


- من السينما طبعاً. أنا من جيل عاش تحت مظلة سينمائي صاحب هيبة كبيرة هو موريس بيالا، وكانت له شعبيته لدى النقاد. أحترمه كثيراً وأعتبره سينمائياً كبيراً، ولكن لا يهمني الجانب الواقعي في أفلامه. الواقعية ليست هي التي تجعلني أرغب في مشاهدة فيلم. هناك أفلام واقعية كثيرة أعشقها، منها "الواقعية الايطالية الجديدة" التي تجعلني أبكي في كلّ مرة، ولكني لا أميل اليها. سينماي فانتازية الطابع.


* النقد السينمائي في فرنسا يستلطف أفلامك عموماً وقد دعمك باستمرار...


- كنت محظوظاً في هذا. لكن السجال كان حاضراً دوماً. النقد الفرنسي قاس جداً، وخصوصاً ازاء الأفلام الفرنسية التي تخلق جدلاً ومهاترات. أتذكّر عندما عُرض فيلمي الأول "لا سانتينيل"في كانّ، تبادل النقاد الشتائم خلال عرض الفيلم صباحاً. وعندما وصلتُ الى المؤتمر الصحافي، السؤال الأول طُرح عليّ: "ألا تخجل من أن تعرض فيلماً كهذا في كانّ؟". فقفز صحافي آخر من مكانه وبدأ بشتم صاحب السؤال. ذُهلتُ لما يحصل. تكررت الحادثة نفسها يوم عُرض فيلمي الثاني، "كيف تشاجرتُ"، في كانّ، فبدأ صحافي سؤاله بـ"آخر مرة جئت بفيلم سيئ والآن تأتينا بفيلم أسوأ...". مرة جديدة بدأ الناس بشتم بعضهم بعضاً. اليوم، بات كانّ يشهد قدراً أقل من هذه الظواهر.



 


* بعد كلّ هذه الأفلام، ما الذي يدفعك الى التصوير؟


- أعتقد ان السينما أداة عظيمة لفهم الحياة واستيعابها. الحكايات تجعلني أفهم الأسئلة المتصلة بالحب والشيخوخة بشكل أفضل. هناك أسئلة تجعلنا السينما نفهمها أكثر من الرواية.


* أفلامك تنقب في الطبيعة البشرية. أيخيفك عدم فهم الوجود؟


- ما يخيفني هو ان الحياة تبدو باهتة وبلا معنى أحياناً. هذا البهتان يزيد تعلقي بالسينما ويقوّي ثقتي بها. هذا الانطباع عن الحياة ليس حقيقة بل وهم. تكمن قوة السينما في انك تصوّر فصلاً من الحياة وعندما تعرضه على الشاشة يأخد معنى آخر. وهنا تكمن حقيقة الحياة. أعتقد ان هناك عقداً غامضاً أو سرياً بين السينما والحياة، مما يجعل الحياة في حاجة الى سينما لنرى مدى بريقها. هذا ما يجعلني أريد الاستمرار في تصوير الأفلام. للسينما ألغاز لا تجدها الا في السينما. اذا وضعتَ الكاميرا في المكان المناسب، وانتظرتَ الضوء المثالي، وأضفتَ تعديلاً بصرياً بسيطاً على الصورة، كمطر أو دخان، فقد يتحوّل مشهد شجرة أو قرنة في شارع، الى شيء مضيء. ترى الوجود حقيقياً وبرّاقاً، في حين أن الحياة نفسها تعطيك الانطباع الخاطئ بأنها تفتقر إلى البريق.


* هل لا يزال في ذمتك الكثير من القصص؟


- الحياة هي التي تقرر.