اليساري... واليسار

جوزف باسيل

كلمة يساري تخيف أو "تنقّز"، وكلمة يسار قلّ تداولها، إذ يكتفى بالحديث عن اليمين والوسط، وعن يمين اليمين. انتفى اليسار في العالم.
إذا سألت من هم في الثلاثين وما دون: من هو اليساري؟ لا يحير جواباً، ليست كلمة مألوفة له.
إنّ استعمالات مصطلح "اليساري" غامضة وملتبسة لمستخدميها ومتلقيها في آن، لأن اللفظة تحيل ذهنياً إلى التكوينات السياسية، المُدْبِرة والراهنة والمأمولة، المحلية والعالمية، والى الأفراد المنخرطين فيها، من دون التحقق في كل مرة من سلامة الاستعمال، ومن توافق الدال والمدلول، ما ألحق بالمصطلح مزيداً من الإسفاف والغموض والمطاطية، وأفقده على مرّ الأيام دلالاته الأصيلة ومكنوناته، المرتبطة بأصوله الايتمولوجية الأولية، كما بجملة المقولات الفكرية الفلسفية التي راكمها والضاربة جذورها في التاريخ الانساني المعرفي.
ومن لا يزال يعتقد في سريرته أنه يساري، يتهرّب من هذا النعت تملّصاً من صور اليساري "السلبية"، كما من صور انهيار التجارب الاشتراكية، لئلا يبدو هو أيضاً خارج الزمان والمكان، أي لا تاريخي ¶.
لمن يقفز عن مفهوم اليسار ويعتبره بائداً يغفل منظومة المفاهيم والمقولات والقيم والرؤى الأخلاقية – الاقتصادية، التي اجترحها العقل والوجدان البشريان، على امتداد عمر البشرية الفلسفي والأخلاقي والاقتصادي.
يتعذر علينا في لبنان استعمال تسميتي "اليمين" و"اليسار" بدلالاتهما العالمية، فهما ككل المفاهيم والمصطلحات التي يخبو بريقها وتبدو واهنة مشوّهة، بتأثير تشتّت رهانات الأحزاب والتيارات السياسية التي تتبنّى قضايا فئوية جزئية تخص الجماعات الدينية التي تمثّلها... وهذا ما ينطبق على سائر الديموقراطيات العربية الواهنة، التي يغلب عليها الهم المتعلّق بالهوية والهم الديني أو الطائفي أو القومي، على الاقتصادي والاجتماعي.
صفة اليساري ليست تهمة ولا مسبّة، بل تختزن حسنها في أنه يعمل من أجل الطبقات الاجتماعية الدنيا والفقراء والمهمّشين، من أجل حياة أفضل. ودائماً صورة اليميني بشعة تظهره ثرياً بطراً، ذا سمنة مشوّهة وشكل شرير رسمته القصص بأبشع الصفات حتى كاريكاتورياً.
"إن العدالة هي نقطة ارتكاز منظمة الأفكار اليسارية، التي تصبو إلى إمكان إقامة مجتمع ذي هيكليّات محدّدة تتحقق فيه شروط العدالة"، (الكتاب نفسه) وتقوم العدالة على:
1 – وحدة الطبيعة البشرية المادية والذهنية ومساواة البشر الأولية في المنطق والاستعداد للتفكير العقلاني.
2 – قدرة الانسان على صوغ مجتمعه وإعادة تركيب مؤسساته وهيكلياته، وبالتالي الإمساك بمصيره.
3 – مجموعة المقولات الخاصة بالعمل بصفته نشاطاً بشرياً فاعلاً ومحورياً يصنع الانسان والحضارة ويبلور قضية العدالة والتوازن.
فضلاً عن العمل، التركيز على التعليم، إذ استناداً إلى النظريات التربوية خصوصاً التي أعلنها بورديو عن توافر شروط الفرص المتكافئة في التعليم، وهو لم يتبنَ هذا التكافؤ، إذ قال إنه حتى لو جلس ابن الغني على مقعد واحد، مع طفل فقير النشأة، "فلغة الاغنياء غنية ولغة الفقراء فقيرة". وبحسب عدنان الأمين إن الدراسات أثبتت أنّ توافر فرص التعليم حتى المتساوية ليست كافية لردم الهوة الاكاديمية بين الاغنياء والفقراء. وبالتالي فإنّ البون شاسع بين النظرية والتطبيق ككل شؤون الحياة.
يفترض باليساري المعاصر أن يدرك التحولات الاجتماعية، وأن يعي أن ثمة توازنات طبقية خلاّقة لتوازنات أخرى، كالتوازن الذي يؤكده ازدهار الطبقة الوسطى، وأنّ التمترس وراء صيغة واحدة، بصفتها الأمثل مغاير للعلم والحقيقة التاريخية، ويتعذر اعادة عقارب الساعة الى ما قبل نشوء الملكية الخاصة.
لكن على اليساري المعاصر أن يكافح ضد رجال المال الذين يسيطرون على السلطة فيجعلون الدولة مجلس ادارة يديرونه كشركاتهم على أساس الربح والخسارة، وينفون البعد الرعائي للدولة، وعندنا ينفون بعدها الأول أي المواطن والمواطنة. وليس أساس الشركة ما تبنى عليه الدول وتالياً الأوطان. ورجال المال يسنّون القوانين لمصالحهم الخاصة ولحماية امتيازاتهم، والسلطة اللبنانية هي الانموذج الفاضح على فظائع هؤلاء.
والأكثر بشاعة بينهم من ركب موجة اليسار في مرحلة من المراحل، ثم صار خادماً في بلاط السلاطين الجدد، أو من كان فقيراً وارتفع على قضية المحرومين كي يغتني ويتسلّط ويزداد المحرومون حرماناً. إنّ هؤلاء يزدادون ثراءً وتسلطاً، فيما تتسع قاعدة الطبقة الفقيرة اتساعاً مطَّرداً بحسب الاحصاءات التي تنشر دورياً في الصحف. إنّ وقائع العولمة التي ضخّمت الاحتكارات والفساد ووسّعت الهوة كثيراً بين الأغنياء والفقراء تتطلب بالحاح اعادة صياغة مفاهيم يسارية معاصرة، تعبّر عن هموم الفقراء، أفراداً وشعوباً ودولاً، وتكون قادرة على صوغ أسس جديدة للمواجهة والصراع.


جوزف باسيل
joseph.bassil@annahar.com.lb


يراجع كتاب "اليسار الماهية والدور"، عايدة الجوهري، دار "الفارابي".