موسيقى - نيكولا شوفورو قدّم تراجيديا "عليك السلام" صلاة إلى برج البراجنة الجريح

م. م.

في كل كتابة موسيقية رسالة، يبوح كاتبها بمآس أو بأفراح، بذكريات أو بأمنيات، بغضب أو بهناء، فكيف كان علينا يا ترى أن نتلقى آيات ناجي حكيم الكاملة، وقد جاء ليقدمها في قاعة بيار ابو خاطر فنان باهر، نيكولا شوفورو، ونحن تحت صدمة بربرية إرهابية درس فاعلوها الحي الأكثر اكتظاظا بالناس من أحياء بيروت، ليقترفوا جريمتهم.


برج البراجنة، أمام هول الفاجعة، ظلّ برجها عاليا، لم ينكسر. الدماء المهدورة وأشلاء الضحايا، قوّت عزيمة المقاومة، رسولة سلام في محاربتها سفّاكي الدماء أينما كانوا. لم تصمت الموسيقى في هذه الليلة الحدادية، نيكولا شوفورو في مستهل الأمسية ذكّر بأن تراجيديا "عليك السلام" التي استوحاها ناجي حكيم من حوادث 2006، سيكون لعزفها في هذا البرنامج، معنى العزاء لبلوغ السلام. ناجي حكيم دوّى اسمه على أورغ بازيليك القلب الأقدس في مونمارتر لثماني سنوات، ثم أصبح وارث أوليفييه ميسيان على أورغ كنيسة الثالوث الأقدس، لخمس عشرة سنة. وإذا حان للأورغ أن يستريح وجد ناجي حكيم في البيانو، حقل تنقيب في جذوره اللبنانية. الفولكلور أخرجه من خوابي الزمن، نبيذا إذا تنشّق هواء الكون انتشى وطاب. الأعمال الكاملة المجتمعة في أسطوانة مدمجة، جاء رسول عنه ليقدمها لنا، نيكولا شوفورو، ذو الأصابع الطيّعة، المرفرفة كأسراب الحساسين على الملامس، بدت في غاية البهجة في التقاطها النوطات كحبات قمح منذورة لتصبح بيادر.
ما كان يفرّق العازف الماهر عن الحضور في الافتتاحية اللبنانية المشغولة على نسق "الرابسودي"، هو كونه كان يعزفها بتألّق بارز من دون أن تمسه أحاسيس جوّانية، فيما كنا نرندح لمامات من "يا غزيّل" و"عبدو حابب غندورة" و"هلا لا لا ليا" و"كلّنا للوطن"، لنتذكّر.
ناجي حكيم استخرج من عصارة هذه الأرض، مادة حيّة تصوّر كيف ستكون إن أطلق لها العنان في رحاب الكون، موسيقى عالمية، في عبورها على سكة زمنيّة سريعة، تتوقف هنيهات قصيرة لمحطة مع الحنين، تغيب وتعود بعد أن يكون الابداع التأليفي أضاعها في نار الأصابع المتأجّجة كسفر إلى ما لا حدود.
قبل أن يأخذه قطاره الجارف إلى حيث للوحي رؤى وأبعاد كونية مع البيانو، مختلفة تماما عن الآيات الدينية التي كان يحلّق بها إلى أعلى، كانت فترة من الإلهام والتأمل، نلمسها في كتابات حديثة موشّحة بتوكاتا باخ. فتقديرا لإنجازاته القيّمة للكنيسة، منحه قداسة الحبر الأعظم، بينيديكتوس السادس عشر، وساما، كما حاز دكتوراه الشرف من جامعة الكسليك الحبرية في لبنان.
حبة الرمل تتسع على الملامس في إيقاعات مختلفة تشمل الشرق الأوسط في تغرّبها. مع نيكولا شوفورو، نستمع إلى الأجراس تقرع من داخل أحاسيس ناجي حكيم الروحانية. الأجراس تقرع فرحا في البداية إلى أن يغدو الصوت دراميا، أسود، لتعود الغبطة والسلام بعد الحداد. أفتكون مقطوعة "غلينالموند" مرسال سلام إلى أهالي برج البراجنة، كما تلك التي عبّر عنها العازف، في تعزيته برج البراجنة. "السلام عليك"، أذكر أنها افترشت أعمدة بعلبك في مهرجانها، "إلك يا بعلبك"، كعودة المهرجان من حيث كان، شهادة فرح وسلام، وها هي تحت أصابعه، مرصودة لسبع تنويعات، نلمس في الأولى ما يشبه التزويق الفرح، ثم نسمع الإيقاع يدور حول ميلوديا في غاية الهارمونية. في الحركات الأخرى يتطور النغم إلى هابانيرا دينامية، كقهقهات من الفرح.