"أحلامنا المتواضعة دفنت في البحر"... اللحظات الأخيرة في مركب الموت

زينة ناصر

مأساة وطن بكل ما للكلمة من معنى، هكذا يمكن وصف ما حلّ بعائلة صفوان التي قضى 7 من أفرادها غرقاً في قوارب الموت في بحر تركيا. اما الناجيان، موسى وماهر، فيحدّثاننا عن علم ضائع في #لبنان، عن طبابة باهظة الثمن لولدين يعانيان من السكري، عن طفل رفضته مدارس رسمية وخاصة، لمعاناته من التوحّد. يحدثاننا أيضاً عن لمّ الشمل وهو من الأسباب التي دفعت العائلة الى الهجرة عن طريق المجهول.


"بيي... خيي"


المشهد في "جبانة" الاوزاعي حيث دفن الاب والام والاخت والاخ اكثر من مؤثر، نساء بكين جيرانهن الذين ابتلعهم البحر، رجال صلوا على الجثامين قبل دفنها، وإطلاق نار كثيف في الهواء تعبيراً عن الحزن الشديد.
تخبرنا فاطمة، أحد سكان الحي في منطقة الاوزاعي، انها حضرت الى الجبانة لتقديم واجب التعزية، فـ"كلنا هنا أولاد بلد واحد نقف الى جانب بعضنا البعض في السراء والضراء". اما ليلى، صديقة الاولاد الذين توفوا، فتقول انها كانت تعلم بسفر أصدقائها منذ بضعة أيام، و تفاجأت عندما علمت بالخبر المأسوي عبر وسائل الاعلام. المشهد مرعب، 7 جثامين اصطفت في نعوش أحدها الى جانب الآخر، فقبل أيام كان من فيها هنا يحلم بخلاص من واقعه الصعب.
"بخاطرك يا امي، يا خيّي، ويا بيّي..."، تلك الكلمات التي ردّدها أفراد العائلة، وهم يبكون من فقدوهم. لم تصدّق كالي ولا زينب ما حلّ بوالديهما مريم ومايز و بلين (7 سنوات) ومايا (9 سنوات).


في بيت العائلة، فتح مجلس العزاء، الجميع يتكلم بالخير عن مايز ومريم، "بيحبوا كل الناس وبحياتهم ما زعّلوا حدا". وينفي أفراد العائلة كل الشائعات التي وردت عبر بعض الوسائل الاعلامية عن مايز وعن استهتاره بأرواح عائلته. ويشبهون الكارثة التي حصلت والظلم اللاحق بالعائلة بواقعة "عاشوراء".


 


قرار الرحيل


كان قرار الرحيل، بحسب ما يخبرنا محمد، ابن مايز الذي لم يسافر في رحلة الموت، "صعباً وسهلاً في الوقت عينه". فالعائلة ككثير من العائلات اللبناني تعاني ضائقة معيشية، لكن قريبهم كايد يؤكد انهم "لم يسافروا طمعاً بالمال" بل أرادوا ان يطببوا موسى، الناجي من رحلة الموت والذي يعاني من مرض السكري.


وكان موسى (22 سنة) يستفيد من مركز إجتماعي في لبنان يزوّده بحقنات الانسولين، الا انه لم يعد يحصل عليها لأنه تخطى الـ18 سنة. والشخص الآخر الذي كان سبب الرحيل هو مالك (7 سنوات)، وهو لا يزال مفقوداً حتى الآن. يعاني مالك من مرضي السكري والتوحّد، ولم تستقبله لا المدارس الرسمية ولا الخاصة، وهو سبب كافٍ لكي تبحث أي عائلة عن وطن يرعاها، "الجميع أراد هذه السفرة ما عدا أمي مريم"، تقول الأخت الكبرى ميرنا التي اصبحت ربة المنزل وعليها تقع مهمة الاهتمام بشقيقتيها كالي وزينب.
وتضيف انها قالت "رايحين على الموت... ما بدي روح"، وغيّرت رأيها "كي لا تكون السبب بتراجع الجميع عن قرارهم".



 


"كنا ننتظر..."


يروي ماهر (16 سنة) لـ"النهار" تفاصيل الرحلة التي "لم نتوقّع أنها ستصبح فاجعة". وصلت العائلة الساعة 11 صباحاً الى تركيا، ومكثت حوالي الـ24 ساعة في منزل الشخص الذي وعدهم بوصلهم بالمهرّبين. والشخص السوري الجنسية كان يقيم في لبنان منذ سنوات عدة في منطقة الاوزاعي، و"قد يكون حسن النية ولا يعلم بألاعيب مهربي البشر"، وفق ماهر المفجوع.
يكره الشاب المراهق الحديث الى الصحافة ويغلبه حزنه، لكنه أكملَ حديثه بتردّد راوياً الاتصال الذي وردهم الساعة 8 مساءً لتحضير أنفسهم للرحيل الساعة 11 ليلاً عبر البحر الى اليونان.
وينفي ماهر خوف العائلة عند تلقيها الاتصال، "مما نخاف؟ كنا ننتظر ذلك الاتصال".


 


مفاجأة الشاطىء
على الشاطئ كانت المفاجأة، حيث ان السفينة التي كانت عائلة صفوان قد وعدت بالسفر على متنها يبلغ طولها 9 أمتار، الا ان السفينة التي وجدتها أمامها على الشاطئ يبلغ طولها 3 أمتار. حتى لو أرادت العائلة الرجوع عن قرارها فان الأمر كان متعثراً، فاما السفينة او البقاء على الشاطئ، هكذا ركبت العائلة في السفينة ولم تكثر الأحاديث خوفاً من ان تسمعها الشرطة. الساعة 3 صباحاً بدأت السفينة بالغرق.


وبدأت الأغراض تمتلىء ماءً، ورمى الجميع أغراضه في الماء. سبح ماهر وحده نحو الشاطئ وأخبر الشرطة التركية ان عائلته تغرق في الماء قبل ان يتم توقيفه ومن ثم التواصل مع عمته مايزة في لبنان. "انا عند البوليس .ما بعرف شي عن الكل. احكو السفارة"، قال لها. موسى نجا اما "زوجتي والجنين في بطنها رحلا" .
في اليوم التالي، التقى موسى في المخفر، وهو كان سبح لأكثر من 24 ساعة حاملاً زوجته الحامل حورية (18 سنة)، التي كان موعد وضعها الجنين بعد حوالي العشرة ايام. توفيت حورية بين يدي زوجها، وجرح موسى بسترة النجاة. يخبرنا كيف رأى والده في منامه عندما نام على المياه وأخبره والده ان يسبح شمالاً. لا يتوقّع الشاب العشريني ان يكون مالك ووائل على قيد الحياة. ويقول ان والده مايز لم يمت من الغرق بل ان جلده "قشر" جراء حرارة الشمس القوية والمياه.


 


"نتقيأ البحر"


سألنا ميرنا (26 سنة) عما تقوله للأشخاص الذين يريدون السفر الآن وهي التي رأت وشعرت بالمأساة التي حلت بعائلتها. تجيب بأن "الغربة تربة"، متأملة البحر الذي يطل منزل العائلة عليه. ميرنا كما باقي أفراد العائلة الذين بقوا على قيد الحياة يكرهون البحر الآن، وهم معروفون بحبهم له ومهارتهم في السباحة".
"نكاد نتقيأ عندما نرى البحر الآن"، يقول كايد مضيفاً "سرق منا عائلتنا".
ويتذكّر مايا ابنة الـ9 سنوات ولين ابنه الـ7 سنوات، ويشبههما بمأساة "أهل البيت". تجلس كالي حزينة وتعتبر ان المغامرة من أجل الكرامة أفضل من العيش بالذل حتى لو كان الموت ثمناً. وتطالب الشابة العشرينية الى جانب أفراد عائلتها الدولة التركية بالبحث على وائل ومالك، شاكرين كل الجهود المبذولة لايجادهما.