نص - خلجات أنثوية على أبواب الأربعين

باسكال مراد

أحاول بعناد ومثابرة غير اعتياديين بالنسبة إليَّ، أنا المصابة باسترخاء بنيوي متجذر، استيعاب أزمتي المستجدّة مع العمر. ذلك أن بضعة أشهر تفصلني عن بلوغ عامي التاسع والثلاثين، بما يعني أن خطوات ثابتة أخرى توصلني إلى ما أسمّيها "الحقيقة المرّة"؛ سنّ الأربعين.
عمدت في هذه المناسبة غير السعيدة الى رصد ما أمكنني من الترددات النفسية التي أصبحت تنتابني في الفترة الأخيرة. لربما تكون هذه حيلتي لتطويق هذه "الكريزة" بخفة، على أمل أن لا أضطر للجوء الى أي دعم خارجي.
- عاطفتي جياشة، منذ البداية. لنقل إن صفة "طافحة"، تليق بها أكثر، بحسب التوصيف الفيزيائي العلمي. فهذه العاطفة الطافحة اتخذت أخيراً منحىً مقلقاً بالنسبة إليَّ، فأصبحت تتجه حصراً الى من وُلد في سنة مولدي، أي في العام 1976. لمزيد من الدقة، سأشمل بفيضها أيضاً، مواليد العام 1975. ترى اندفاعاتي على أشكالها، الحسية والفكرية والفانتازمية (أي الاستيهامية، التخيلية باللغة العربية الفصحى)، تصوّب على هؤلاء كأهداف مفترضة لإشباعها. قبلاً. كنت كمَن تلتمس حظوة بمعاشرة مَن يكبرنني سناً (للبرستيج دور في ذلك أيضاً). أما اليوم، فقد تبدلت مفاهيمي للعلاقات الانسانية، فلم تعد مسألة النضج عندي تقاس حكماً بعمر الإنسان. جميلٌ جداً هذا التغير، نظرياً، لكن تبقى تمنياتي الجدية بأن تقف ميولي عند هذا الحد، ولا تتدرج نزولاً كلما زادت على عمري سنوات (تفادياً لوجع الرأس والبهدلة).
- بتُّ أُجري دورياً، مسحاً ميدانياً شاملاً لجسدي. تماماً مثلما يكشف متضرر على ما بقي من ممتلكاته، بعد كارثة طبيعية ألمّت بها. أتفحص جسمي من كل الزوايا المتاحة أمامي، بمساعدة مرآتي (الحنونة عليَّ إجمالاً، فأشعر بها تزيدني درجتين من الرونق على الأقل عن باقي المرايا التي أصادفها في نهاراتي)، علني أستطيع إحصاء ما تخلّفه السنون: تجعيدة من هنا، أو ترهّل من هناك. لكن يبقى اكتشاف شعيرة بيضاء في مكان أكثر حميمية من شعر الرأس، صدمة لا تضاهيها قوة إلاّ صدمة سنّ البلوغ.
- أجد في البكاء لذة ووسيلة غير مكلفة للتفريغ النفسي. شكلت الدموع دائماً لذّتي السرية، أنفرد لممارستها. فهي تدخل ضمن فضائي الشخصي جداً والحميمي. لكن في خضمّ أزمة العمر هذه، أصبح بكائي يترافق مع قيادتي السيارة ويختلط مع شهيق وزفير (فعلاً، لا أقصد السخرية). تكفي فكرة تشاؤمية تعترض تسلسل الأفكار، أو نغمة رومنطيقية كئيبة، أو حتى جملة تافهة في أغنية ركيكة، لتشنّ عليَّ أحاسيسي هجوماً مباغتاً بالدموع الحارقة.
- تبلغ حساسيتي حالياً ذروتها. فهي كميزان الحرارة تتفاعل مع أيّ تغير مناخي، عفوا مزاجيّ طفيف. ليلعب مزاجي في مدى يحدّه قطبان. فمن حال الكآبة والحنين (لما بعرف لمين) الى حالٍ من الابتهاج الساذج يصل إلى حد الهبل أحياناً. انتقال سريع وهبوط حادّ.
- أدركتُ فجأةً أن الحياة مرصوفة بالفرص الضائعة وأن الذي بقي من العمر لا يقاس بالذي مضى. لتصبح السرعة في اقتناص الفرص وعبارة "لحقي حالك" التي تتردد في نفسي شعاراً لهذه المرحلة. فقررت أن أتحمل للمرة الأولى مسؤولية ما أرغب فيه فعلاً، ليزخر داخلي بمشاريع وخطط مستقبلية. كمَن تقوم بعملية استبطان ذاتية على أمل ولادة ثانية.
"هبّة ساخنة، هبّة باردة"، ربما هو العنوان الأنسب لأزمة الأربعين (لا أقصد التعميم). الشيء الجيد أنني لا أزال بعيدة عن الهبّات الساخنة التي تُختزَل بها سنّ اليأس. لكن هذا التفاؤل لا يمنع العودة مرةً جديدة للتشطح (تعبير عامي متداول) على كنبة التحليل النفسي. فالمرحلة دقيقة والاحتياط واجب...