حدود الردّ التركي على الاستفزاز الروسي ؟

أمين قمورية

انتهاك الطائرات الحربية الروسية المجال الجوي مرتين واعتراض تلك الطائرات لسلاح الجو التركي الذي يقوم بطلعات استطلاعية روتينية على طول الحدود التركية السورية، ليس وحده ما يقلق أنقرة. فمثل هكذا خروقات واردة في الاحوال العادية فكيف في الاحوال الحربية كتلك الجارية حالياً في شمال سوريا على مقربة من المجال الجوي التركي حيث شكل الحضور العسكري الروسي أخيرًا تغييرا في قواعد اللعبة هناك.


الامر الذي يزعج القيادة التركية يتعدّى هذا الخرق الذي قد يجرّ الى صدام مباشر بين الجانبين، الى ما هو أبعد لا سيما بعدما قدّمت موسكو دعمًا غير محدود للنظام السوري الذي راهن الرئيس التركي رجب طيب #اردوغان على إسقاطه، ولم يوفر وسيلة الا واستخدمها من اجل ذلك. ما يقلق أنقرة امور عدة أشد خطورة:


اولا، التباعد في وجهات النظر بينها وبين جارتها الشمالية الى حدّ الشرخ السياسي لاسيما في ما يتعلق بسوريا. فالقيادة التركية كانت ولا تزال ترغب بحلٍّ في سوريا من دون الرئيس بشار الأسد وكانت تأمل في ان تلين موسكو موقفها المتمسك ببقائها في رأس السلطة. لكن القيادة الروسية ذهبت الآن بعيدا في دعم الأسد والعمل على تثبيت سلطته.


ثانيا، عسكرة موسكو وجودها في سوريا بذريعة محاربة إرهاب "الدولة الاسلامية" لكن طائراتها استهدفت بالقصف بالدرجة الاولى قوات المعارضات السورية المعتدلة لا سيما منها الحليفة لأنقرة على غرار "الجيش السوري الحر" و"جيش الفتح" و"حركة أحرار الشام" الذين تستضيف بعض أبرز قادتهم وتوفّر لهم المأوى والإسناد . وهذا ما يرغم أنقرة على إعادة النظر في كل برامجها السياسية والعسكرية في سوريا.


ثالثا، اعتبرت #روسيا "وحدات حماية الشعب" الكردي شريكًا لها في محاربة الإرهاب ، وهذه المنظمة هي الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الكردي الذي يُعتبر امتدادًا لـ "حزب العمال الكردستاني" الذي تصنّفه أنقرة إرهابيا وتشنّ حربًا ضروسًا ضده. وهذا من شأنه ان يقلب المعادلات التركية ضمن صفوف الاكراد في سوريا، لا سيما أن أنقرة تعمل بكل ما أوتيت لمنع التواصل بين اكراد سوريا واكراد #تركيا ولقطع التواصل بين القطاعات الكردية الثلاثة في سوريا. في حين ان الغطاء الجوي الذي قد يوفره سلاح الجو الروسي لهذه الوحدات قد يشدّ من عزيمتها القتالية ويساعدها على التمدد حتى خارج مناطق الغالبية الكردية شمال سوريا.


رابعا، الدخول العسكري الروسي ايضا من شأنه منع تحقيق الهدف التركي بإقامة مناطق آمنة في شمال سوريا، كما يعطي دورًا فعّالاً لروسيا في شرق البحر المتوسط ربما يكون على حساب الدور التركي، خصوصا أن هذا الدخول يأتي في ظل انشغال تركيا بمتابعتها الداخلية في ظلّ فترة من عدم الاستقرار المستمرّة منذ الانتخابات النيابية في حزيران الماضي. وفي حال حدثت مواجهة (احتمال ضعيف جدا) بين موسكو وحلف شمال الاطلسي فان تركيا ستتحمل الوزر الاكبر من الثقل وستجد نفسها بين فكّي كماشة بين الطرفين.


الى ذلك، فان لروسيا اليد الطولى على تركيا في الملف الاقتصادي وخصوصا الغاز الطبيعي ، ضمن ميزان تجاري مائل بشدة لمصلحة موسكو، وهو ما يجعل خيارات أنقرة محدودة جدا وربما باهظة الثمن إن أغضبت موسكو في ظل التراجع الحالي للاقتصاد التركي.
هل يمكن ان تصل الامور االى مواجهة بين الطرفين؟


غالب الظن، لا، ذلك ان اقل بكثير من هذه الموانع النظرية والعملية، كانت كافية لكبح جماح صانع القرار التركي من المواجهة حين كان الصراع إقليميًّا (تنافسًا مع إيران بالدرجة الأولى)، فكيف بها حين ترقى ليصبح دوليا بامتياز؟


أكثر فان المصالح التي تربط بين الطرفين كثيرة ومتنوعة وتشمل مجالات عدة متشعبة يختلط فيها السياسي بالتاريخي بالاقتصادي بالثقافي. وقد نجحت البراغماتية الروسية والتركية في تحييد التأثيرات السلبية للخلافات السياسية على علاقات البلدين، خدمة للتعاون بينهما في قطاع الطاقة، فكيف وهما دخلا الآن معا في بناء علاقات اقتصادية إستراتيجية متطوّرة. فزيارة الرئيس الروسي فلاديمير #بوتين لأنقرة والتي أعقبتها زيارة اردوغان لموسكو توّجت شركة اقتصادية تجعل تركيا - على حد وصف رئيس شركة "غازبروم" الروسية ألكسي ميلر- بمثابة "حنفية للغاز" الروسي المصدّر إلى بلدان جنوب أوروبا وشرقها، بعد وقف مشروع بناء "السيل الجنوبي" الناقل الغاز.


هل هذا وحده يكفي لدرء المخاطر المحتملة بعد الدخول الروسي الصاعق عند الحدود التركية واللعب بالحسابات والثوابت التركية؟ حتما لا!
اذن ماذا يبقى في الجعبة التركية لتخرجه في سوريا؟


يرجّح خبراء في الشأن التركي ان يكون موقف أنقرة أكثر ارتباطًا بالموقف الأميركي من السابق، وزيادة الدعم للمعارضة العسكرية السورية بما يزيد من كلفة الوجود الروسي على الأراضي السورية، أي تفعيل سيناريو الاستنزاف "الأفغاني" على المدى الطويل. بيد ان الالتصاق أكثر بواشنطن خصوصًا في ظلّ الانتخابات المصيرية المقبلة في تركيا سيجرّ أنقرة الى تقديم المزيد من التنازلات لواشنطن على غرار ما فعلت أخيرًا في مسألة قاعدة انجرليك الجوية.