الولادات السورية الكثيفة في لبنان لا تتوقف عند المآسي الاقتصادية

كأن جاذب الإستمرار يتفوّق على التوق الى ظروف حياة مقبولة لدى النازحين السوريين إلى لبنان، مما يزيد معاناتهم مأساتهم الإنسانيّة في تأمين القوت وشروط العيش. لا يهم أن تمتلىء الخيم بالأطفال والرضّع. الأهم هو الحفاظ على تقاليدٍ موروثة تحتّم منطق ان تتكون شجرة العائلة من تفرعات جمّة، فتزدهر أغصانها ولو بيباس في اوضاعٍ اقتصادية واجتماعية مزرية. في المناطق الداخلية يترعرعون، حيث يتنافسون مع اللبنانيين الفقراء على خدمةٍ ما طبيّة كانت ام غذائية. والتعنت في اعتقادات الحفاظ على الاستمرارية لا تقهرها آراء الأطباء وعلماء الاجتماع مجتمعة. لا مفاوضة على حريّة النسل.



الشمال الأكثر استقبالاً
لعلّ مناطق الشمال اللبنانيلنائية الأكثر استقبالاً لاعداد اللاجئين القاطنين داخل خيم . ولعلّهم الاكثر تحبيذاً للانجاب. ففي دراسة اجريت في محافظة الشمال حول اوضاع 669 امرأة في طور الانجاب ظهر جليّاً ان النسبة الكبرى منهن 43% تتمركز في عكار مع وفي طرابلس حيث بلغت النسبة 32%، اما الضنيّة فشكّلت 25% منهن. وتبيّن في تقرير المسح النهائي ان نسبة الامهات السوريات القاصرات بلغت 12.4 %.
وفي موضوع الحسابات الزمنيّة التي تجريها الحوامل حول تاريخ الانجاب تبيّن ان 29.7 % من اللاجئات يقدّرن موعد الولادة بشكلٍ خاطئ غير مدركاتٍ لتاريخ ميعادهن الأخير. وفي مقاربةٍ أصعب، لوحظ ان نسبة السوريات اللواتي خضعن لولادة قيصرية سابقة بلغت ن37%، وشكلت السوريات 38.9% من اجمالي المريضات، مما يعني انهن بحاجة الى دخول مستشفيات متخصّصة تعالج اوضاعهن تداركاً لأزماتٍ صحيّة مرتقبة.


اعتقادات وتعقيدات
خبايا كثيرةٌ تقف وراء ارتفاع معدّلات الانجاب في صفوف النازحات السوريات في لبنان. منها ما يرتبط بموروثاتٍ اجتماعيّة ضيّقة، وأخرى يحتّمها واقع الحرب. تشرح ممثّلة جمعيّة سنا الطبيّة، الدكتورة ريم ابو رستم الأسباب الكامنة وراء ترجيح اللاجئين نظريّة الانجاب المستمرّ: "الإنسان يحارب الموت بإعادة الإنتاج. وهذا المفهوم ليس حكراً على السوريين، بل إنه فكرةٌ جماهيريّة التوجّه، صادفناها في لبنان خلال فترات الحروب، حيث الرجال على الجبهات والنساء حواملٌ في الملاجئ. وقد يكون ذلك ردّ فعلٍ طبيعيّاً في ذهن اي نازح فقد اباه او ابنه فيأتي بولدٍ يعوّض الخسارة. الاّ ان لهذه الاعتقادات التي تتبناها الأذهان، تعقيداتٌ تتبلور في احتساب توقيت الانجاب الزمني والمكاني ومظاهره التقليديّة".
تضيف: " النازحون لا يقطنون مناطق الرفاه الاجتماعي ، بل في اماكن شبه نائية في اقضيةٍ داخليّة بعيدة، ما يحتّم على النساء منهم، وفي ظل انعدام التوجيه الاجتماعي، التأخر في اللجوء الى المستشفى لعدم دقّة حساباتهن لتحديد موعد الولادة، فضلاً عن ترجيح بعضهن التوليد في المنزل ما يعزّز امكانيّة اصابتهن بنزفٍ حاد، وهذه الحالات كانت موجودة اصلا، فنسبة ولادات السوريات المحبّذات لها السلوك تتخطى نسبة اللبنانيات بأضعاف ، فضلاً عن خضوع عددٍ لا يستهان منهن لولاداتٍ قيصريّةٍ سابقة، مما يحتّم ضرورة استخدام تقنيّة الانجاب نفسها في ظل ظروفٍ حرجة تختصر بارتفاع معدّلات الامراض المزمنة، ناهيك بمظاهر سوء التغذية وصعوبة تأمين الأدوية".



ندواتٌ، على أمل نجاح
رغم نيّة الجمعيّات الأهلية وجهودها الكبيرة لتوعية النازحين حول خطورة الانجاب المستمر وانعكاساته الاجتماعيّة السلبية، الا ان جهداً كبيراً يبذل رغبةً في بلوغ الأهداف المرجوّة. وتعتبر الدكتورة ابو رستم ان "الندوات التي تنظّم للنازحات حول مضامين الموضوع من الحمل وصولاً الى ما بعد الانجاب لا تكفي، ففي التطبيق تبرز حاجة إلى بذل محاولاتٍ اضافيّة في ظلّ تأثير الرجل اجمالاً في قرارات زوجته، فهو يحبّذ زيادة اعضاء العائلة، وفي حال حضوره إحدى الندوات يمكن أن يمنعها من الحضور مرّة أخرى مما ينتج واقعاً أسوأ. من جهةٍ أخرى، يصعب اقناع من عانت الأمرين جرّاء الحرب، بأخطار الحمل". وعن الحلول في ظلّ هذه الاجواء القاتمة تؤكّد "السعي إلى جذب النازحات لحضور الندوات من طريق تقديم معاينات للأطفال على سبيل المثال".



ثقافة تنظيم الأسرة مفقودة
تدخل المفاهيم التقليدية في مسألة الاكثار في انجاب الاولاد. ويعتبر الدكتور في علم النفس الاجتماعي هاشم الحسيني ان "هذا الموضوع تعود اصوله الى ثقافة تقليدية عربيّة تحبّذ الإكثار في عمليّة الانجاب. مجتمع الفلاحين يرى في ذلك مورداً اقتصادياً للأهل. اما العشيرة فتنظر اليه كموردٍ عسكري. فكرة تحديد النسل لا تزال جديدة في المشرق وفي سوريا بالتحديد، لا بل هي منبوذة من كثيرين لأن لا علاقة لها بالمنحى الاقتصادي بالنسبة اليهم". ويشير الى ان "ثقافة تنظيم الأسرة مفقودة، نظراً إلى عدم توافر الوعي الثقافي الكافي". وعن مقاربة بين اللبنانيين والسوريين يعتقد ان "نسبة كبيرة من المواطنين في المناطق الريفية يؤمنون بضرورة انجاب اولادٍ كثر، وهم يقتربون في نمط عيشهم من السوريين، وهذا ما يدخل ضمن سلوكياتٍ اجتماعية لها ترسّبات ماضية، لذلك لا يشعرون بمسؤولية تجاه ما يقومون به، فهم لا يعنيهم مستقبل الطفل التربوي والمعيشي".



ليس في أنماط المعيشة اللبنانية ـ السورية تقاربٌ متجانس كما يعتقد البعض، آخذين في الاعتبار بُعد الانتماء المشرقيّ الواحد وعامل الجوار الديموغرافيّ المشرّعة حدوده لكلّ من رغب في العبور بين البلدين. لعلّ احتكاك اللبنانيين بجيرانهم نتيجة ظاهرة النزوح الضخمة ونتائجها، كشفت خبايا الاختلافات العميقة التجذّر بين الشعبين. لكن الانسانية تبقى مفترقاً اكبر من كل الاعتبارات. مفترقٌ يدفع اللبنانيون ثمنه غالياً في اقتصادهم ومجتمعهم ومعيشة ابنائهم. عسى ان يدرك النازحون ان كثرة الولادات لا تخدم شجرة الاستمرارية في نضرتها... بل تزيد فيها تفرّعاتٍ يابسة.