في لبنان لا يزال يبحث حتى اليوم عن ابنه ولا يجده... أين هو؟

ليست المسألة تمييزاً او امنية شخصية. هي تدخل في مضامين سجل الاستمرارية المعروف تحت اسم "شجرة العائلة". تحبيذ انجاب صبي على حساب فتاة في لبنان يتفاوت بين عائلة واخرى، ويندرج في حساباته مستوى الوعي الثقافي والتربوي. الا ان المستغرب، هو تلك الفطرية المكتسبة التي حتّمت على كثيرين اعطاء الامتياز للذكر، لان القانون أكسبه احقيّة المحافظة على الوجودية. البعض يعتقد ان الصلاحيات العاطفية التي يتمتع بها الصبي هي شعورٌ مكتسب. لكن الحقيقة مختلفة. هي مجرّد شعورٍ ملتحق ومندرج في اطار صلاحيات قانونية لم تعط الامرأة حق اعطاء اسمها لاولادها او حتى التفيّؤ في ظلال اسم والدها. على الشجرة ان لا تفقد خضرتها. يباسها ينذر باختفاءٍ من الوجود. هيا بنا نبحث عن الصبي الضمانة.



7 فتيات لم يشبعن جشع الابوّة
قد يطمح الوالدان الى انجاب صبي. لكن السير قدماً نحو تحقيق الهدف مهما كانت النتيجة، مسألة مختلفة تماماً. الاساليب والطقوس المعتمدة لضمان نجاح العملية كثيرة. منها ما هو منطقي كزيارة الاطباء وتصفّح الانترنت للاستفادة من معلومات طبية، ومنها ما يدخل في مرحلة الهاجس عندما يحدّد الطرفان توقيت الليلة الحميمة او يعمدون الى زيارة العرافات. ما حصل مع عائلة عماد كان اشبه بالمغامرة. الاب الذي يعمل سائق تاكسي، يكاد يكسب لقمة عيشه، لكن الطموح الاغلى من المهنة يتمثّل في انجاب من يضمن استمرارية السلالة. 7 بنات لم يهزمن العزيمة الجائعة الى الهدف. فماذا بعد؟ يروي الاب وجهة نظره حيال الموضوع: "ليس الموضوع أنني اريد صبياً لانني اميّز بين الجنسين، بل الفكرة تتمثّل في حبي للتنوع بين اولادي لذلك طمحت لان أكرَم بذكَرٍ الى جانب البنات. وها انا اليوم لا اميّز بين الفتيات بل احبهن واعاملهن احسن معاملة، حتى انهن يعتبرنني اليوم اهم شخصٍ في حياتهن. جميعهن دخلن المدرسة، رغم الوضع المادي المتواضع، الا انني امنت متطلباتهن الاساسية ولم ابخل عليهن بشيء". وحول ما اذا كان يطمح الى انجاب المزيد من الاولاد يقول: "اذا كان نصيبي ان انجب المزيد سانجب، وليس لدي مشكلة في ذلك لانني احب الاولاد وتأسيس عائلة كبيرة واحفاد كثر". وعن اهمية ضمان استمرارية العائلة يصرّح: "هذا امرٌ مهم طبعاً لان الفتاة لا تحمل اسم ابيها، ومن حقي ان اطمح الى الحفاظ على ديمومة العائلة لان ذلك يعني لي كما يعني لكل شخص كائناً من يكون، وانا آمل بذلك خصوصاً انني انصفت عائلتي ولم اميّز بين بناتي لان الموضوع لا يندرج في خانة عدم تحبيذ انجابهن كما يفعل البعض".


الوجودية
نظرة علم الاجتماع الى موضوع تحبيذ انجاب الذكور على حساب الاناث تأتي بشرحٍ مفصّل. فتؤكّد الدكتورة ميرنا مزوّق، باحثة اجتماعية، ان "التركيبة الاجتماعية اللبنانية هي تركيبة عائلية. الهم الابرز الذي يعتري العائلات يتلخّص بضرورة تأمين الاستمرارية. اذاً فالقصة وجودية، يعزّزها قانون الاحوال الشخصية في لبنان الذي يحتكر على الذكور الاحتفاظ باسم العائلة. وهذا لا يعني ان الفتاة ليست عنصراً مهماً بالنسبة للاهل، بل هي تتمتع بأهمية انسانية خصوصاً في العصر الحالي حيث اضحت منتجة ومثقّفة، الا انها لا تستطيع ان تكفل للعائلة صفة الوجودية". وحول ترجيح عملية الانجاب المستمر رغم صعوبة الاوضاع الاقتصادية، تعتبر ان "العنصر الاقتصادي لا يأخذ حيزاً مهماً بالنسبة إلى البعض، بقدر ما تكون الافضلية انجاب الصبي، وهذه المظاهر موجودة بشكلٍ كبير في المناطق اللبنانية التي تعاني عدم الادراك وقلّة الوعي التربوي والثقافي. الا ان هناك عقليّة مقابلة تجد في الكرامة الانسانية والمساواة أحقيّة تسبق معايير الوجودية، لذلك لا يهتمون بضمان استمرار العائلة بقدر ما يعنيهم تربية الاولاد على اسسٍ صالحة وحمايتهم". وتعتبر ان "الفرق يكمن في ان النظرة المجتمعية الى الصبي التي كانت تصنفه في خانة القوة سابقاً، اما اليوم فالمعرفة باتت في متناول الجميع والوعي التربوي صار اكثر نضجاً نظراً لاختلاف الحاجات وطرق النمو، فبات الخوف على الشاب يعادل نسبة الخوف على الفتاة". وعن النظرة المستقبلية حول امكان اضمحلال فكرة ضمان استمرارية العائلة ترجّح "ان التعصب للعنصر الذكوري في تراجع مستمر، وهذا لا يلغي مسألة حب التنوع في العائلة، الا ان كرامة الانسان لا تفرّق وحقوقه لا يفرّط بها. تطور العقلية التقليدية يسير ببطئ، الا انه يتجّه في الطريق الصحيح، كما انه للعلوم الاجتماعية والحقوقية هيبة اكثر احتراماً مجتمعياً".



الخوف على المصير
يشرح الدكتور عبدو قاعي، رئيس المركز اللبناني للأبحاث المجتمعية، المنحى الذي تتخذه مسألة استمرارية العائلة في التركيبة الديموغرافية للمجتمعات البشريّة: "الذكَر عادةً هو من يؤمن صيرورة العائلة ويعيد تركيب الديموغرافيا. لذلك يصنّف الطموح في انجاب الذكور في خانة الظاهرة القديمة التي لا تزال راسخة في الذاكرة البشرية، وها نحن نجدها اليوم في المجتمعات التقليدية، هي التي تراجعت بوتيرة معيّنة في الدول المتطورة والحديثة". وحول ما اذا كان للتمييز دورٌ في تعزيز هذه الظاهرة يعتبر ان "لو كان بامكان المرأة ان تضع ابنها على اسمها لاختلف الموضوع. المسألة لا تتعلّق بالتحيّز للصبي على حساب بالفتاة، بل توضع في خانة ضمان الاستمرارية وهذا ما اكسب الناس اعتقاد فطري بتحبيذهم انجاب الذكور". وعن الطقوس المعتمدة من البعض للمساعدة في انجاب الصبي يلفت الى ان "عدّة ممارسات لا تزال سائدة في المحيطات التقليدية التي برأيهم تساهم في ذلك، كالتقويم الزمني مثلاً وانتظار ليلة معيّنة تتم فيها عملية المجامعة". ويشدّد على مسألة ان "المجتمعات بغالبيتها يعتريها الخوف على مصيرها ومستقبلها، وهذا ما ادّى الى عودة النزاعات القبلية التي تتخّذ شكل الحروب، ما اضعف مفهوم الحداثة وعزّز عودة التعصّب الى بلدان اوروبا الشرقية للحفاظ على الديموغرافيا".
هو وحده من يستطيع ضمان استمرارية اسم العائلة. حتى وان لم يكتسب ثقة الاهل او رضاهم. المهم انه من ابناء آدم. قد يهتم الوالدان في تفاصيل شجرة الوجودية في السنوات الاولى للزواج. الا ان ايامهم الاخيرة مختلفة. حصاد سنوات التربية والبرّ بالوالدين هي الاجدر بالانتظار. عسى ان لا يخيّب الغصن الجديد احلام الشجرة وتطلعاتها. والاهم ان لا يشكّل عبئاً ثقيلاً عليها، فينحني بها نحو الاسفل... او يصيبها بمرض "التسوس".