"المنطقة الامنة" بين تمنيات الاتراك وتحفظات الاميركيين

بعدما تداولت الصحف التركيّة والأميركيّة في أواخر تمّوز الماضي خبراً يتعلّق باتفاق تركي أميركي حول إنشاء منطقة خالية من #"داعش" على الحدود التركيّة- السوريّة، جاء، أخيراً، تعليق اميركي رسميّ على هذا الخبر أمس الثلثاء، حيث نُفيَ وجود هذا الاتفاق على لسان الناطق باسم وزارة الخارجيّة الاميركيّة #مارك تونر.


تصريح تونر جاء ردّا على ما قاله وكيل وزارة الخارجيّة التركيّة #فريدون سيريليو اوغلو لقناة "سي ان ان ترك" عن اتفاق البلدين على انشاء منطقة آمنة يصل طولها الى ثمانية وتسعين وعرضها الى خمسة وأربعين كيلومتراً بحراسة قوّات من الجيش الحر. وفي تصريح لاحق قال سيريليو اوغلو إنّ السيطرة على تلك المنطقة وحمايتها سيقودهما "الجيش السوري الحر" بحماية جوّيّة أميركيّة وتركيّة.
إذاَ الاشارات في وسائل الاعلام التركيّة الى هذا الشأن ليست جديدة، وإن كان بعض التضارب طبع تلك الاشارات بداية. فتحدّثت معلومات عن تسمية المنطقة ب"المنطقة الآمنة" ليعود تسليط الضوء على مفهوم "المنطقة الخالية من داعش". ثمّ تحدّثت معلومات تركيّة إبّان الاتفاق عن انشاء منطقة حظر جوّي جزئي ليتمّ اسقاط هذا الحديث من التداول لاحقاً، قبل أن يؤكّد رئيس الوزراء التركي # أحمد داود أوغلو في حديث أمس لهيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي" أنّه سيتعاون مع الاميركيين لاقامة منطقة آمنة بما تشمل حظراً جوّيّاً.


من المفهوم أن يحاول الاتراك "جسّ نبض" الاميركيّين من خلال إلقاء معلومات صحافيّة كبالون اختبار لنيات الادارة الاميركيّة الحاليّة. فالاتراك ليسوا على نفس موجة الاميركيّين بالنسبة الى رؤى كثيرة تتعلّق بالازمة السوريّة، بدءاً من تسليح بعض فصائل المعارضة، مروراً بالنظرة الى الدور الكردي في المنطقة، وصولاً الى مصير الرئيس السوري #بشّار الاسد.


وإذا كان هناك تحايل تركي في فهم وتنفيذ بعض بنود الاتفاق، إلّا أنّه يستبعد وجود هكذا تحايل يتعلّق بجوهر الاتفاق: المنطقة الآمنة نفسها (بغض النظر عن مسمّياتها المتعدّدة)، ما يعني أنّ احتمال أن يكون الاتراك قد اختلقوا قصة الاتفاق على إقامة تلك المنطقة ضئيل.


إذاً ما الذي دفع المسؤولين الاميركيّين الى التأخّر في اصدار تعليق رسمي على الموضوع، علماً أنّ التصريح الاعلامي عن هكذا اتفاق قد يضرّ بعلاقة واشنطن مع الروس ومع الايرانيّين الذين وقّعوا معهم على الاتفاق النووي بالامس القريب؟


إذا طُرِح احتمال أن يكون هناك فعلاً اتفاق بين واشنطن وانقرة على استخدام الاميركيين لقاعدة انجيرليك الجوية في تركيا من اجل شنّ ضربات ضد "الدولة الاسلامية"، بدون التطرّق الى اقامة منطقة حدوديّة آمنة، سيظهر أنّ أنقرة قدمت عرضاً مجّانيّاً لواشنطن. لأنّها لن تكون بصدد تأمين استراتيجي لحدودها البرّيّة الجنوبية. بالمقابل، هي لن ترضى بمبادلة السماح باستخدام قواعدها الجوّيّة من قبل الائتلاف الدولي، بالسماح لها فقط بشنّ ضربات جوّية ضد الاكراد وعناصر التنظيم.


فتنظيم "داعش" لا يشكّل عدوّاً "تاريخيّاً" للاتراك، كما هي الحال بالنسبة الى التنظيمات الكرديّة المسلّحة. وبالتالي لا يمكن لها القبول بأيّ تسوية مع الاميركيين لا تتضمّن مناطق خالية من وحدات "حماية الشعب الكرديّة" أوّلاً ومن عناصر "الدولة الاسلاميّة" ثانياً. لكنّ الاميركيّين لا يتقاسمون نفس النظرة مع الاتراك تجاه المنظمات الكرديّة، أقلّه الآن، لأنّ الاكراد يخوضون معارك ضارية و"ناجحة" ضد "داعش".


ربّما يفرض احتمال آخر نفسه بالنسبة لما حصل أواخر تموز الماضي، يقضي بحصول اتفاق أوّليّ أميركي-تركي على ضرب التنظيم أوّلاً وغض النظر عن ضرب بعض الاهداف الكرديّة الحسّاسة ثانياً، على أن يترك الطرفان أمر فرض منطقة آمنة لاتفاق لاحق، تسمح به في ما بعد، الظروف السياسيّة والعسكريّة على الارض.


وهكذا يكون التركي استعجل في تضمين الاتفاق الاساسي موافقةً أميركيّةً مبدئيّة بالنسبة الى المنطقة الآمنة، فيما أجّل الاميركي البحث في تلك الخطوة كي يراقب مدى جدّيّة انقرة في محاربة "داعش". وعندما لم تثبت تركيا جدّيّة واضحة في حربها على التنظيم، اختار الاميركيّون الضغط عليها عبر إلغاء البحث اللاحق في مشروع المنطقة الآمنة الذي اعلنه تونر بطريقة غير مباشرة.


لكن تبقى بعض الملاحظات الاخرى: تونر أكّد في ما خصّ سؤالاً بالنسبة ل"حزب الاتحاد اللديمقراطي": "تفاهمنا معهم (الاتراك) على أنّهم لن يهاجموا الحزب، وأنّنا لن نوافق على ذلك". هذا الكلام يحمل غموضاً بنّاءً بالنسبة الى الطرفين، إذ أنّ عدم الموافقة على مهاجمة أنقرة للحزب وذراعه العسكريّة، لا يعني أنّ هناك جزاءً أميركيّاً لتركيا إذا خرقت هذا التفاهم، وبالتالي تبقى مسألة غضّ النظر من الجانب الأميركيّ عن استهداف الاكراد واقعةً حتى إشعار آخر.


الملاحظة الاخرى تتعلّق بالغموض الذي يكتنف المنطقة الآمنة إذ قال تونر أيضاً:" كنّا حريصين جدّاً على عدم إعطاء أوصاف لما ستبدو عليه تلك المنطقة باستثناء قولنا إنّ جهدنا سينصبّ لدفع داعش الى خارجها". هنا، تثار تساؤلات تقع اجابتها على الجانب الاميركي أيضاً إذا كان الاتفاق يقضي "فقط" بطرد "داعش" من المنطقة: ما هي حدود تلك المنطقة وهل هي ثابتة أم متحرّكة؟ ما هي طبيعة ومصادر تمويل القوّات التي ستنتشر بعد انسحاب التنظيم؟ وفي حال رسّخت نفسها في الشمال السوري كيف سيكون دورها المستقبلي بالنسبة للصراع في ذلك البلد؟


تصريح تونر أتى ليزيد التعقيد بالنسبة للمشهد العسكري في الشمال السوري. ذاك التعقيد الذي ولّدته صفتان أساسيّتان راسختان في السياسة الاميركيّة والتركيّة تتابعاً تجاه الازمة السوريّة:
التخبّط والمناورة.