أسرار خفيّة عن إيران

يارا عرجة

حين رأيتها للمرّة الأولى في إحدى مكتبات وسط بيروت التجاري برفقة بناتها، لم يظهر على بشرة تلك السمراء أيّ علامة تدلّ على هويتها أو عرقها. لا بل كانت مكشوفة الرأس، أنيقة وجميلة، تتكلّم الإنكليزيّة ببراعة. هي آزاده، وآزاده تعني الحرّية. آزاده امرأة إيرانية حرّة ومتحررّة، حاربت كشركائها في الوطن لنيل حقوقها، وناضلت من أجل بقائها في مجتمع يهيمن عليه الطابع الديني والذكوري.



"أنا امرأة إيرانيّة، ولدت في إيران وترعرت في شوارع عاصمتها طهران، حيث قطفت ثمرات الذكريات الحلوة والمرّة. حياتي، كجميع المواطنين الإيرانيين، والنساء خصوصاً، عرفت الكثير من المغامرات والمشقات التي حاولتُ التغلّب عليها. مصيري كان الآتي: أن أترعرع كجميع النساء في مجتمع ذكوري، في أحضان أسرة منفتحة بعض الشيء، مثقفة، محبّة للعلم، أن أتزوّج من إيراني وأن ألد بناتي على أرض تحكمها الشريعة الإسلامية فقط. ولكن، لأنني لم أرد أن تختبر بناتي ما كنت قد اختبرته أنا في ربوع الوطن الحبيب، ولأنني أحلم بأن يحظين بمستوى تعليمي أفضل وأرقى بحيث يتمكنّ من تكلّم أكثر من لغة بطلاقة إلى جانب الفارسية التي تركّز عليها المدارس في إيران، قررت الانتقال للعيش في لبنان، في بيروت تحديداً، لنحظى معاً بحياة أفضل بكثير".



شباب لبنان وإيران



للبنان وإيران نقاط تشابه عديدة، تجعل من الشعبين اللذين يختلفان في السياسة ونمط الحياة يلتقيان بالمعاناة الناجمة عن الانفجارات والاعتصامات التي تجعل حياته معرّضة للخطر، للا استقرار، فيصبح بالتالي اللبناني والإيراني شقيقين، يتشاركان لحظات الذعر والقلق. تشير آزاده إلى أنّه عبر إقامتها في بيروت لاحظت أنّ "حياتي في لبنان لا تختلف كثيراً عن تلك التي كنت أحظى بها في إيران. لا أستطيع القول أنّ ما يسعدني هو الحريّة أم الديموقراطية هنا، إنّما أستطيع القول أنني أشعر بالراحة. ولكن في الوقت نفسه أنا لا أشعر بالأمان. قد أكون سعيدة نعم، إنما لا يمكنني معرفة ما سيحصل معي بعد ساعة مثلاً، وهذا الأمر لم اختبره في إيران من قبل". وتقصد آزاده في ذلك، الانفجارات التي قد تقع في أيّ لحظة وفي أيّ مكان في لبنان، إضافة إلى ردّات فعل الجميع، وتنوّه إلى أنّه لم يحصل الكثير من الإنفجارات في طهران، بل كان ذلك يحصل في ضواحيها. كلّ ما أذكره هو دويّ صافرات الإنذار خلال حرب العراق – إيران واختبائنا في الملاجئ. الخطر الفعلي كان خارج طهران، في ضواحيها، جنوبها وشمالها". وما يذهلها في الأمر هو "إصرار الشعب اللبناني على العيش على الرغم من جميع المخاطر التي تهدد حياته اليومية. فقد لفتني نمط عيشهم الذي يتمسكون به حتى بعد وقوع أيّ انفجار، فأراهم في المقاهي أو الحانات، وكأنهم مخدّرون أو اعتادوا الأمر. اللبناني سعيد، بعكس الإيراني الذي لا ينعم بالسعادة في موطنه".



مدرسة لأبناء الشهداء



لم يسلم الأطفال من قوانين الشريعة الإسلامية التي كانت تطبّق حتى على الأطفال في المدارس، كما لو كانت نوعاً من الغذاء يتمّ إدخاله رويداً رويداً إلى جسم الإنسان منذ الصغر ليعتاد عليه لاحقاً: "أذكر أنني كنت تلميذة في المدرسة المتوسطة في مدرسة رسمية تدعى The Children Of Martyrs ويرتادها فقط أبناء الشهداء حيث كان يتمّ تعيين أفضل المدرّسات هناك أيضاً، وكانت هذه من أفضل المدارس في إيران أيضاً. وأنا كنت أرتاد هذه المدرسة بفضل والدتي التي تعلّم هناك، والتي كانت قد اتبعت حيلة ما لأنتسب إليها. كنت ملزمة كما زميلاتي في الصف، بارتداء الحجاب الأسود، وكنت أضعه رغماً عنّي. كانت هناك لجنة تفحص التزام الفتيات بقواعد اللباس، وهذه التجربة لم تكن سيّئة جداً عليّ، إنّما أثّرت كثيراً بأختي الصغرى. لم تكن عائلتي منفتحة كثيراً، ولكن كانت بالتأكيد أفضل من عائلات زملائي في الصف، وهذا هو الاختلاف الذي كنت ألمسه معهنّ، اللواتي كنّ يعتبرنني مختلفة عنهنّ لأنّ والدي ما زال حيّاً، في حين استشهد آباؤهن من أجل إيران. وأنا كان عليّ أن أدفع ثمن المشاغبات التي كانت ترتكب في الصف، فقط لأنّ والدي ما زال على قيد الحياة، فيما استشهد آباؤهن".



وقد تزامنت فترة تعليم آزاده في المدرسة مع الحرب العراقية – الإيرانية التي جعلتها تترك طهران من أجل الاختباء في قرية والدتها. "غالباً ما كانت الانفجارات تحصل في الأماكن المجاورة لطهران، إلاّ أنني أذكر يوماً أنّه عندما بدأ القصف في طهران تركنا المدينة باتجاه أصفهان، وهي قرية أمّي حيث بقينا هناك حوالي الشهر أو الشهرين إلى حين انتهاء المعركة. وكان علينا ارتياد المدرسة هناك، ففوجئنا أنّ الصفوف كانت هناك صغيرة جداً ولا تتسع للمزيد من التلاميذ. وبما أنّ تلاميذ طهران كانوا ضيوف تلاميذ القرية، فكان على هؤلاء الجلوس على الأرض، على أن نتمركز نحن في أماكنهم لأننا ضيوف. كما أذكر أنهم كانوا مندهشين بأغراضنا الغريبة وحقائبنا الجميلة فكانوا ينظرون إليها باندهاش".
طبعاً كانت مدرسة آزاده للفتيات فقط، وقد استمرّت السلطات بفصل الشبّان عن الفتيات حتى في الجامعة "وفي الجامعة أيضاً حاولوا فصل الشبّان عن الفتيات إلاّ أنّهم لم يتمكنوا من ذلك بسبب بعض المواد المشتركة، فكانوا يقسموننا فيضعون الشبّان في الخلف، أو النساء في الطابق العلوي"، مشيرة إلى أنه ما زال ممنوعاً الاختلاط في الأماكن العامة وأنّ هذا الأمر بدأ يختلف من جيل إلى آخر ومؤكّدة أنّه "كان يتمّ الاتصال بأحد أفراد عائلتها لمعرفة هوية الشاب الذي يخرج معي".



ديموقراطيّة مزيّفة



عصفت بإيران ثورات عدّة ولّدت العديد من التحرّكات والاعتصامات التي تحدّث عنها العالم بأكمله. فمع كلّ حدث سياسي، تتوجه الأنظار إلى العاصمة طهران حيث يتجمّع المئات من المواطنين للتعبير عن رأيهم. وحتى التعبير عن الرأي كذبة في إيران، أو وسيلة تتلاعب بها السلطات من أجل تنفيذ ما يحلو لها دون أن تقمع الشعب بشدّة. "جميعنا أردنا التغيير بعد خاتمي، فاخترنا أحمدي نجاد للرئاسة. كنّا على يقين أنّه لن يحقق لنا آمالنا وما نصبو إليه إلاّ أنّه كان أفضل من غيره. بعد مرور أربع سنوات على انتخابه، لم ندلِ بصوتنا من جديد له. وقد تجلّى رفضنا لنظامه في ساحات طهران من بينهم ساحة آزاده الشهيرة أي ساحة الحريّة".



اللباس الشرعي



تفرض القوانين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الفتيات والنساء تغطية رأسهنّ وأجسامهنّ في الأماكن العامة. فبينما يفضّل المسؤولون لباس الحجاب، تفضّل الشابات ارتداء المعاطف الضيّقة وما يغطي رؤوسهنّ بطريقة ضئيلة. وكان قد شنّ أحمدي نجاد معركة ضدّ موضة النساء، فقد عيّن شرطة للنساء تتحقق من لباسهنّ ومن تبرّجهنّ ومن الألوان التي يضعنها أيضاً. وفي هذا السياق تشير آزاده أنّه "في حال عدم الالتزام بقوانين اللبس، يتمّ القبض على المرأة، أو يطلب منها تغيير لبسها على الفور، او يتمّ احتجازلها ليوم واحد". وكانت آزاده ضحيّة هذه القوانين "أذكر يوماً أنّ الجو كان ماطراً، وكنت ألبس حذاء، لفتني شيء على واجهة محال، فنزلت من السيّارة لرؤيته. سمعت حينها صوت امرأة تنادي، لوهلة اعتقدت أنها تتسوّل، فجئت ببعض المال لأعطيها، إلاّ أنها امسكت بيدي ووبختني لنوع الحذاء الذي أرتديه. رحت أغطيه ببنطالي، إلاّ أنها أصرّت على معاقبتي. أما أنا فالتزمت الصمت مع الشرطية التي ألقت القبض علي كي لا تحتجزني، فأعطتني ورقة لأمضي على تعهد الالتزام بقوانين اللباس وعدم ارتداء هذا النوع من الحذاء مجدداً، فمع توقيعي في أسفل الورقة، كتبت:"أنا مواطنة طبيعية هنا، إلاّ أنكم تتدخلون كثيراً في حياتي"".


حياة مزدوجة



لا يعتبر اللباس الشرعي إلاّ جزءاً لا يتجزأ من الحياة المزدوجة التي يتمتع بها كلّ إيراني وإيرانيّة. فإلى جانب هذه القوانين، يمنع على الإيرانيين الاحتفال والاختلاط وشرب الكحول. إلاّ أنّ أغلبيّة المواطنين في البلاد الفارسية بحاجة لمتنفّس، فكانوا يعقدون بحسب آزاده كلّ أسبوعين، حفلات سريّة في المنزل الذي يعجّ بالرجال والنساء، ويرقصون معاً على أنغام الموسيقى، ويحتسون الكحول والمشروبات. إلاّ أنّ الخطر يشتد حين "تنفّذ الشرطة دوريتها، فتأتي لتقرع على المنزل. فالويل لمن يُكشف أمره... بعض رجال الشرطة يمكن رشوتهم بالقليل من المال، إلاّ أنّ البعض الآخر، إن لم يحالفنا الحظ، لا يقبل الرشوة، بل يقوم بتنفيذ العقوبة التي تختلف بحسب نوع الحفلات. إضافة إلى إرغام الفرد على دفع ثمن كميّة الكحول التي شربها كـ 300$ على الزجاجة، يجلد الشارب 75 جلدة. أذكر أنّ الشرطة أيضاً قامت عدّة مرّات بدوريات في زفافي، إلاّ أنني نجوت والمدعوين نتيجة رشوتهم بالأموال".
يعيش الإيرانيون مجموعة من التناقضات في حياتهم اليومية، فحياتهم الظاهرية ليست كتلك المخفية منها، خارج المنزل، ليس كما في داخله. فلجميع الإيرانيين حياة مزدوجة يسعون من خلالها إلى تطبيق القانون ولكن على طريقتهم. تعطي آزاده مثلاً على ذلك "تطبيق القوانين الإسلامية والامتناع عن الشرب والاختلاط وغيرها من التشريعات، فيما كان الجميع في المنزل يفعل العكس تماماً، إذ كان الأهل وأفراد الأسرة يشربون، لا يصلون ولا يصومون، بعكس ما هو ظاهر للعيان، فأنا أهلي لم يجبروني على الصلاة".



هذه القوانين وخصوصاً ما يتعلق بالمرأة، تضغط عليها أكثر من الرجل، مما يدفعها إلى الثورة. ولكن الثورة الصامتة التي تختبئ وراء الحجاب. فيعتبر العلم سلاح المرأة في إيران، تتمكّن من خلاله محاربة المجتمع والقوانين لتحصيل حقوقها. فبينما لم يكن يحق منذ عقد أو أكثر للنساء الالتحاق بالجامعات ومتابعة دراستهنّ، تحتلّ النساء والفتيات اليوم "60% من مقاعد الدراسة في الجامعات الإيرانيّة". ولا يزلن يناضلن في أمور عدة كمسألة الترشح لمنصب قاضية، وحضانة الأولاد، والسفر من دون إذن وليّ أمرها، ومشكلات الإرث. وتختم آزاده بالقول إنّ "النضال يسير في عروقنا، ونحن نناضل عبر العلم فقط".
Yara.arja@annahar.com.lb
Twitter: @Yara_Arja