بيوت باب التبانة: تأوّهات تتصاعد من ثقوب الرصاص والقذائف

طرابلس – رولا حميد

قبل عقود عدة كانت طرابلس تسمى "أم الفقير"، وكانت محلة باب التبانة تسمى "باب الذهب"، فالمدينة كانت مقصد الناس من كل حدب وصوب، يجدون فيها حاجاتهم بأرخص الأسعار، وكانت السوق التجارية الأبرز في الشمال، فيها اسواق متعددة ومحلات ومؤسسات صناعية مختلفة.


وبمرور الزمن، ومنذ بداية الحرب اللبنانية عام 1975، ثم اندلاع جولات الاقتتال في ايار 2008 حتى ربيع 2014، فإن طرابلس اضحت مدينة الفقر، وأحزمة البؤس حيث تؤكد الدراسات ان نسبة الفقر فيها هي الأعلى في لبنان. اعلى نسبة فقر وبطالة وتسرب مدرسي في المدينة هي في محلة باب التبانة! واذا استمرت على هذا المنوال فستظل بؤرة تفجر في أي لحظة سانحة.


واذا كانت التبانة قد خلعت عنها ثوب المعارك الدموية المدمرة منذ تنفيذ الخطة الامنية في طرابلس في الاول من نيسان 2014، لكن آثار الحرب لا تزال بارزة للعيان في شارع سوريا الذي كان خط التماس بين التبانة وجبل محسن، رغم الهبة التي قدمها الرئيس سعد الحريري لطلاء الأبنية وإزالة معالم الصراع، ولا تزال تداعيات 22 جولة معارك ماثلة حتى الساعة على مختلف الأصعدة النفسية والجسدية والبنيوية، وضحايا الاحداث يعانون الفقر والبؤس والهواجس والبطالة، ولم ينجُ منزل من آثار المعارك التي تركت بصماتها على اجساد الجرحى، وبخاصة الاطفال منهم، وفي نفوس من فقدوا أعزاء سقطوا بسبب الاقتتال العبثي، ولدى بعض من سببت لهم المعارك امراضاً نفسية وعصبية.


مشاهد عدة ماثلة في باب التبانة لن تمحوها كل عمليات الترقيع والتجميل طالما لم تقترن الخطة الامنية بمشاريع انمائية تعيد باب التبانة الى زمن كانت فيه "باب الذهب".


يكاد لا يخلو بيت او مبنى في باب التبانة من تداعيات مأسوية خلفتها المعارك المتعاقبة، حيث الاضرار والخسائر البشرية والمادية والمشكلات الصحية والنفسية والاجتماعية.


مبنى واحد يختصر المأساة بثلاث قصص محزنة وكئيبة ترتسم في كل ركن فيه، الى جانب ما يعانيه سكانه، كما سكان المحلة كلها، من انتشار الحشرات والقوارض الناجمة عن تقاعس البلدية، ومؤسسات الدولة المعنية، في رش المبيدات على ابواب الصيف.


يقع المبنى في شارع عرف سابقا بشارع "المخفر"، وهو مؤلف من ثلاث طبقات، كل طبقة منه تحتضن نكبة ومأساة. لكن مأساة البناء تبدو واضحة من مدخله المتداعي الذي ربما لم يشهد الطلاء إلا مرة واحدة عند تشييده أواسط القرن الماضي. بناء هش يوحي منظره أنه آيل للسقوط بين لحظة وأخرى. ثقوب الرصاص تغطي جدرانه، وتحدث في بعض النقاط طاقات واسعة.


لا يصعد أحد إلى المبنى إلا قاطنيه. عليهم تسلق درج طويل مستقيم، لكن درجاته متخلخلة تهدد عابرها بالسقوط في أي لحظة خصوصاً أنه معتم، ولا تنيره كهرباء، وهي أصلاً شحيحة في بيوت المحلة.


جدران المنازل شاحبة، بلا لون، وإذا توافر لون فهو الأسود بسبب حرائق طالت معظم بيوت المحلة بسبب القذائف، تغطي الجدران ثقوب متفاوتة الحجم سببها الرصاص، ولم يخلُ بيت من المبنى من مأساة اجتماعية وصحية وانسانية.


والغريب في الأمر أن إيجار البيت يبلغ المئتي دولار، وهو لا يصلح حتى لزريبة، لكن بشره لا خيار لهم إلا تأمين المبلغ بأي طريقة، أو التشرد في الشارع.


مداخل البيوت متآكلة، متحررة من الخشب، ولذلك، فالمسكن مفتوح بعضه على بعضه الاخر من دون عوازل. لا أسرة، إنما فرشات اسفنج تغطي أرض غرف النوم التي يقيم في كل منها ما لا يقل عن عشرة أشخاص، أي ينامون فوق بعضهم بعضاً لكي تتسع المساحات لهم.


الوصف المأسوي للحالة لا يكتمل، ولا يفي الواقع حقه، لكنه يترك ثقلاً على من يشاهد حالته، والغريب كيف تمكن الناس من التعايش مع هكذا حالات!! الغريب أن واقع الأسر يمكن أن يؤمن مختبرا لدراسات اجتماعية وصحية تندر في العالم.


دخلت "النهار" الشقة الأولى والتقت السيدة أمل كسار، التي قالت:" لدي 4 بنات و3 صبيان، وقد قضت ابنتي فاطمة (13سنة وثلاثة اشهر) في الأحداث الأخيرة بين باب التبانة وجبل محسن في العام المنصرم 2014، برصاص خطاط اخترق قلبها في المنزل، اما ابنتي الكبرى فقد اجريت لها عملية في وركيها وهي لا تستطيع المشي بشكل جيد ولا تعمل. وضعنا مزر ونعاني فقراً مدقعاً وزوجي يشتغل عاملاً في معمل قلعجية للحلاوة والطحينة في بلدة رأس مسقا في الكورة لقاء أجر اسبوعي قدره 120 الف ليرة وهي لا تكفينا. وابني الصغير محمد يبلغ من العمر ثماني سنوات يحتاج الى علاج نفسي بسبب أصوات القذائف والمعارك وبسبب مقتل شقيقته، وقد اثرت الحادثة على عقله. وكان اجرى له الطبيب اختبارا، وطلب ان يعالج لمدة سنتين ليعود طبيعيا، ويبلغ تكلفة علاجه في مدرسة خاصة خمسة ملايين ليرة ونحن لا نملك أياً من هذا المبلغ(...)".


وفي الشقة الثانية التقينا فاطمة خالد الحايك التي تروي ذكرياتها الحزينة والمرعبة من زمن الاحداث والمعارك، فقالت:" عشنا ايام رعب، ولا نزال نعيش تداعيات الاحداث، فنحن هنا، في باب التبانة، نعيش البؤس بكل صوره، زوجي يدعى عادل الدايخ يعمل سائق تاكسي، وعندي تسعة صبيان وبنت، وواحد من اولادي كان مسجوناً بسبب الاحداث بين التبانة وجبل محسن، فقد كان يدافع عن منطقته، وخرج مؤخراً بعد سجنه سنة وشهرين. وانا بعت اثاث بيتي، وكل ما املك واستدنت بعض الاموال، واخرجته، ولم اسدد المبلغ الى اليوم. وبسبب المرض في ذلك الوقت كنت ادخل المستشفى يوماً واخرج في اليوم التالي خوفاً على ابني(...)".


وفي الشقة الثالثة إلتقينا فادي خضر مسعود، الذي قال:"عندي ولدان وتوفى ثالث بسبب الاحداث والرعب الذي عاشته المنطقة، فقد وُلد في الشهر الثامن وبقي في المستشفى خمسة اشهر ثم فارق الحياة، كما عندي طفل يدعى عمر (4 سنوات) مصاب بالكهرباء في رأسه ومشاكل في عينيه (ماء زرقاء وسوداء) واجريت له عدة عمليات. وبسبب الكهرباء في رأسه كنت اتابع علاجه، ولكن منذ عدة اشهر لم أعرضه على الطبيب لان كل جلسة تخطيط رأس تكلف مئة دولار، ووضعي المادي سيئ، وليس لدي ضمان صحي، واذا لم اعالجه ستبقى الكهرباء معه طول حياته".


أرقام مرعبة


وكانت افادت آخر دراسة عن "الفقر في طرابلس" التي قامت بها الأسكوا بالتعاون مع المعهد العربي لانماء المدن ان:
نسبة الفقر والحرمان في باب التبانة 78 في المئة من العائلات.
52 في المئة من العائلات في التبانة في حالة فقر مدقع وحرمان شديد.
57 في المئة من اهالي طرابلس فقراء ومحرومون.
77 في المئة من اهالي طرابلس متعثرون اقتصاديا.
35 في المئة يعانون مشكلات صحية.
25 في المئة يقطنون في مساكن غير لائقة.
25 في المئة محرومون من التعليم.