بين "راهب وأمير": الى حضرات المسؤولين في دولتنا المحترمة!

يتذكر الراهب "الامير". بين الاثنين، اكثر من صداقة. اسرار. بعد نصف قرن تقريبا على الفراق، يحلو للاب يعقوب السقيم ان يخرج دفاتره، ويشكفها علنا للمرة الاولى. وتتدفق الذكريات، ويستعيد بها رائحة وجه جميل. وجه الجنرال فؤاد شهاب. وكل مرة لمحه الراهب، لمعت عيناه، وابتسم. "كان الجنرال رجلا عظيما. وما دوّنته عنه، وان كان بعضه عاديا، فاعتبر ذلك افيد واهم امثولة للبنانيين"، يقول. 171 ورقة عزيزة على القلب هي عصارة كتاب عنونه السقيم: "بين راهب وامير: ذكرياتي مع الرئيس فؤاد شهاب" (منشورات جامعة الروح القدس- الكسليك). ويتركه بمثابة شهادة صادقة للتاريخ. وكان هو الشاهد الرئيسي.


كثيرون جدا يخصّهم السقيم بالاهداء: "المسؤولون الكبار والصغار في دولتنا اللبنانية المحترمة، كل من يرغب في ان يعرف التاريخ الحقيقي للامور الحقيقية الظاهرة، كل من يريد ان يتعلم التاريخ، لان التاريخ هو اكبر وافيد معلم للبشرية جمعاء، كل من يريد ان يصنع التاريخ كما صنعه لنا الاجداد والاباء والامهات الميامين... وغيرهم وغيرهم من كل دين وطائفة ومذهب...".


ما يدونّه في كتابه "ليس مجرد اقوال واحاديث سرية او غير سرية، انما ايضا شهادة حقيقية على ما عشته والرئيس شهاب، بالقرب منه، ككاهن وراهب (مرشد)، كصديق حميم (تبادل آراء واستشارات) معظمها بعدما ترك الرئاسة". "قلائل جدا جدا"، عرفوا بتلك العلاقة آنذاك. واذا قرر السقيم نشر "وريقاته" اليوم، فبدافع ان يوفر للقارىء "فرصة للتفكير والعمل المشترك والصادق لبناء لبنان القوي ومصون من كل المؤامرات الداخلية والخارجية، كما كان يرغب، بل يعمل الجنرال شهاب".


"ظلوا يمزقون ثوب الوطن"


شباط 1962، تقاطعت طريقا الرجلين حول "تعبيد طريق لا يتجاوز طولها 70 مترا تقريبا". كان السقيم رئيسا لدير نسبيه غوسطا، ويهتم بتشييد مستشفى لاهل المنطقة والجوار. وكانت حاجة "الى محوّل كهربائي وتعبيد طريق اليه... وكان بعض السياسيين يعارضون المشروع لاسباب عدة، متكلين على الرئيس شهاب في هذا المجال"، يتذكر. بعدما راجع بعض المسؤولين بهذا الخصوص "من دون جدوى"، توجه الى القصر الجمهوري في الذوق، وشرح القضية امام اثنين من كبار المسؤولين... واثناء الحديث، "مرّ مصادفة الامير شكيب، شقيق الرئيس، وسمع بعض الحديث".


وفي الساعات التالية، كانت المسألة حُسمت. "روحو لعند الابونا وشوفو شو بدو ونفذوا بسرعة"، قال الرئيس للمسؤولين "بالحرف الواحد". وبالفعل، "اتوا من بعيد ومن قريب، وراحوا يهتمون بسرعة لتنفيذ ما طلبت"، يكتب السقيم في اوراقه. وهكذا بدأت علاقة فريدة بين الامير والراهب... في منزل الجنرال الذي اصبح حاليا في عهدة الرهبانية المارونية، "غرفة سمعت جدرانها اسرارا كان ليلها في مكان ونهارها في داخلها، مع الجنرال، وفي حضوري. وكم من حقائق غابت معه وستغيب معي الى الابد".


شخص الامير، شخصيته، افكاره يستحضرها قلم السقيم بامانة. "لم يكن في حياته محاباة في العدل، ولا مواربة في الصداقة، ولا مخاتلة في الاخاء، ولا خوف من اي شيء... كان قويا بكل معنى الكلمة، قوي بشخصيته، قوي بحديثه، قوي بانسانيته ومحبته لكل انسان"، يكتب. احدى المرات، قال له: "آمل يا ابونا ان يرتفع صوت سليم خال من امراض هذا الزمان: حب السيادة والمال ومحبة الذات، وان يسمعه باول درجة نواب الامة وينقادوا اليه. حاولت ذلك، فلم انجح الا القليل. ولكن كما قال احد الكتاب وغاب اسمه عن ذهني: ظلوا يمزقون ثوب الوطن ليرفعوا ثوب الاحزاب، خصوصا ثوب الحقيقة ليرفعوا ثوب الطائفية".


سندويشات للوزراء!


تلمع الخبريات عن الامير، ويسردها الراهب بتشويق. "مرة، ناول الوزراء "سندويشات" في احدى جلسات مجلس الوزراء. فبعدما تجاوز الوقت الثانية بعد الظهر، ولم يكن انتهى جدول الاعمال، راح بعضهم يعتذر بسبب افتتاح معرض او دعوة الى تدشين ما ولاسباب تافهة، كما قالها لي، قال لهم: سير الدولة اهم بكثير من هذه الامور. ثم طلب من احد المرافقين سندويشات له ولهم. وتغدوا واحتسوا القهوة، وتابع معهم جدول الاعمال. وعند الانتهاء، قال لهم: اذهبوا الآن واعملوا ما تشاؤون".


من 17 كانون الثاني 1967 الى 27 نيسان 1973، دوّن السقيم يوميات جمعته بالامير، مع تفاصيل الاحاديث والمخابرات واللقاءات والمواضيع المثارة. ومن خلالها، تظهر روح الرئيس الذي كان شاغله الوحيد: لبنان، و"كان يتألم" لحاله وحال سياسييه. "سيخرب لبنان ان ظل الامر على هذه الوتيرة. نعم سيخرب"، خاطب السقيم في ت2 1969. كان يقصد التسلح الذي بدأته جهات لبنانية، و"بعضهم يتاجرون به تجارة دنيئة". ومما قاله يومها: "يا ابت، لا يمكنهم ان يعملوا من لبنان دولتين، واحدة للمسيحيين، واخرى للمسلمين. و(كميل) شمعون يريد ذلك، اقله بالطريقة التي يتصرف بها. لا، لا، لا. هذا هو لبنان مسيحي ومسلم، شاؤوا ام ابوا".


كان الجنرال يحسن قراءة الاحداث ويستشرف المستقبل، كأنه نبي. "سيجري في لبنان تخريب ومشاغبات... من الشيوعيين والبعث. وهذه ارادة سورية. كذلك سيكون للفلسطينيين دور مهم في الاحداث فيه ووراءهم دولة غير سورية ايضا. فعليكم الانتباه" (12 حزيران 1968). وكان ايضا يحسن اطلاق الصفات على سياسيي ذلك العصر: (كمال) جنبلاط "الطويل"، المير مجيد "ابو الشوارب"، بيار الجميل "بطرس الاكبر"، وفؤاد بطرس "قداسة البابا"، ورياض الصلح وحبيب ابو شهلا "هؤلاء الرجال العظام".


"هودي إلَك"


تنفتح صفحات السقيم على وقائع كثيرة ووجوه سياسية ودينية وعسكرية وديبلوماسية ونقابية من تلك الحقبة، وتضيف اليها ابعادا وتفاصيل لم تكن معروفة، لانها كانت في عهدته وحده. ومن خلالها، يرسم صورة رجل كبير حلم بلبنان كبير. ويبقى ايضا في سر الراهب كلام كثير لم يكشفه في كتابه، لان الجنرال اوصاه بان يبقيه له: "Ca, C'est pour vous seulement. انك تحفظ سرا وسرك عميق جدا"، قال لي. وتلك الاسرار ستذهب معي الى القبر".


قبل 42 عاما، اغمض الجنرال عينيه للمرة الاخيرة. الحادية عشرة ليلا، 25 نيسان 1973. "جلست على مقعدي ورحت اخنق الدمع واعيد الذكريات الماضية والايام... ومرت امامي في لحظة واحدة، ثم ذرفت دمعة واحدة فقط... وبقيت الليل كله من دون نوم وذرفت دمعة اخرى وقلت: غاب الجنرال... خسر لبنان الجنرال... وخسرته انا. وكانت اكبر خسارة لي، خصوصا عندما قال مرة لاحد اصدقائه المقربين: انا لم ارزق اولادا. الاب يعقوب السقيم اعتبره ابني".


ويدفق قلم هذا "الابن" بالوجع عند الفراق (27 نسيان 1973): "ارقد ايها الصديق الصدوق. وانا كراهب لبناني وكاهن سيذهب معي قولك لي: هودي الك، امينا على اسرارك الخاصة واسراري. وانتم ايها المسؤولون الكبار والمؤتمنون على الدولة اللبنانية، اذا نقصتم كرامة او همة او عزة نفس او زهد، فاذهبوا الى قبر الامير، وانفضوا التربة عنه، تجدوا هناك العزة والكرامة والعنفوان، وسيروا في خطاه لترفعوا لبنان وتحفظوه من كل اذى". الخاتمة.


hala.homsi@annahar.com.lb