غياب غونتر غراس الظافر بـ "نوبل" وضمير ألمانيا

رلى راشد

في السابعة والثمانين وفي إحدى عيادات مدينة لوبيك الألمانية إنطفأت حياة غونتر غراس الصاخبة. خلال الأعوام الأخيرة التي قضاها الكاتب في هذا المكان المرصود لمداواة جسد آيل إلى التلاشي، لم يختفِ صوته تماما. ظلّ من حين إلى آخر، يعيد التذكير بأنه الإسم الذي دأب يدفع بمواطنيه الألمان إلى النظر في مرآة تاريخهم، ليروا جانبا قبيحا حَلا لهم أن يستروه.


لم يكن واقع شمول غراس بنعمة "نوبل" الآداب في 1999، إجازة إلى احترافه الهدوء. على نقيض ذلك، ظل أحد ركاب قافلة الباحثين عن المتاعب المتولّدة من الإعتراض. والحال انه وفي شيخوخته المتقدمة، في أول شطر من عقده الثامن، أشعل شرارة الفضيحة السياسية ناشرا وفي هيئة قصيدة "ما ينبغي قوله"، مرافعة لمصلحة إيران في موازاة إتهام اسرائيل وسلاحها النووي بتهديد السلام العالمي. شكّل تصريحه المدوي آنذاك والخارج على سياق السائد، مدخلا الى التشكيك في فسحات اليقين عند البعض.
دأب غونتر غراس إذا على المناهضة ليصير هو الآخر أحد اهدافها. في التاسعة بعد السبعين أخرج في حديث إلى صحيفة "فرانكفورتر ألماينه تسايتونغ" سرا دفينا تعلق بانخراطه في مراهقته، في وحدة النخبة العسكرية Waffen-SS الملحقة بالنظام النازي. صدم الإفصاح مواطنيه الذين صنفوا الكاتب اليساري الهوى العامل على مصالحة ألمانيا مع ماضيها مرجعا فكريا أرسى شهرته من خلال التفكيك الأدبي الرمزي والمباشر لنظام نازي قضى على ملايين الحيوات. في إعلانه للصحيفة الألمانية عن حلقة مفقودة في مساره الشخصي، استبق ما سيكتشفه القراء في أحد فصول سيرته الذاتية "تقشير البصل" حيث أفرد جزءا للحديث عن تلك الحقبة القاتمة من ماضيه. والحال ان هذه التجربة أثقلت على ضميره فدفعت به الى استعادة معيشه على الورق ليشير في صددها: "دفع بي صمتي طوال هذه الأعوام الى الكتابة. كان ملحاً أن تطفو هذه المسألة على السطح".
لم يبخل غراس طبعا بالمبررات للتخفيف من وطأة خيار اتخذ في عرفه مبكرا في سياق الثورة على سلطة الأهل وجاءه بالإحساس بالذنب والخزي لاحقا. لكن الخيبة من "حقيقة" غراس، جاءت على قدر الآمال التي طالما علّقت عليه. ألم يسخّر نصوصه ليتطرق إلى موضوعات حساسة كمثل صعوبة اعتراف المرء بأنه شريك في التطرف؟ ألم يجعلها استعارات عن النازية التي تحولت لازمة في منجزه كمثل ذاك الفتى بهوية اوسكار في روايته البكر "الطبل الصفيح" القادر على تحطيم الأشياء من حوله بصوته فحسب؟
لم يكن هيّنا على ألمانيا أن تتلقف إعلان تورط الكاتب المسرحي والروائي والشاعر والرسام والنحّات، فكُتب عن "أفول مرجعيّة أخلاقية". أشير إلى تقهقر مثال شكّله رجل اعتلى المنصة ليتسلم جائزة "نوبل" للآداب في استوكهولم ويشدد على قدومه من "البلاد حيث أُحرقت الكُتب". سألَت هذه البلاد عينها، عن وقع هذا الرأي المؤثّر لو تيقّنت آنذاك أن ابنها قد أخفى عنها تجربته المريبة.
في صيف 1959 أنهى غراس في باريس "الطبل الصفيح"، التي ستكوّن مع "الهرّ والفأر" و"أعوام الكلب" ثلاثية دانتزيغ. لم يكن الألماني تصدّى الى الساعة إلى النوع الروائي مكتفياً بالشعر والمسرحيات ونصوص أعمال الباليه بتأثير من زوجته الأولى، الراقصة آنا، بلا ريب. حين بادرته دار نشر "كيرت ولف" في نيويورك طالبة إصدار روايته في الولايات المتحدة الأميركية، شكك غراس في إمكان أن يفهمها أهل هذه الأنحاء. أشار إلى ان إطار نصه ريفي، بل ويخصّ ريف الريف، وانه محشو باللهجات المحلية الألمانية. قاطعه الناشر لافتا إلى حقيقة غفل عنها: "لا تقل المزيد، إن الأدب العظيم برمته متجذّر في الضواحي".
تطلعنا هذه الحكاية على حقيقتين تخصان غراس ولم ينتبه لهما. أولا انه لا يمكن ادعاء الكتابة الجيدة من طريق استشراق الذات، أي من خلال النظر إلى الذات بعين إرضاء الآخرين. وثانيا ان الكاتب العظيم في حال ارتياب تام إزاء منجزه وإزاء قدرة الآخرين على تلقّفه.
يودّع قراء العالم اليوم منجزا متشعّبا لم يستسغ الصيغ السطحية والجمل الجاهزة. يودّع صوتا لم يتنصّل من حقيقته وإن دوّر الزوايا كما يفعل جميع الناس، أحيانا.


 مقابلة مع غونتر غراس


[[video source=youtube id=qV1HDE5DqM0]]


 غراس يتسلم جائزة "نوبل" الآداب:


 


[[video source=youtube id=MzjxaQwRCwE]]