نوبل تودّع الساموراي الأخير

رلى راشد

كأنه كان ينتظر الموت. تحدّث عنه مرارا وتقرّب منه وحاوره قبل أن يستسلم له ويسمح له بأن يستدرجه إلى الضفة الأخرى.
حصل الشاعر السويدي توماس ترانسترومر على "نوبل" الآداب في 2011 وعلى امتياز القراءة منذ أعوام طويلة وعلى قدر الرحيل في الثالثة بعد الثمانين، أي قبل أيام قليلة.
من حيث لا يدري، قدّم ترانسترومر نفسه شاعر بلاده السويد، واستطاع أن ينطق بإسم وطنه عبر علاقة حبّ شغوفة جعلته يندمج مع الطبيعة والأشياء الجامدة والنجمات النادرة والأشخاص الصموتين. إهتمّ خصوصا للناس وحكاياتهم البسيطة الأكثر تأثيرا في رأيه من جميع الملحمات العظيمة. لم يكن بهذا المعنى شاعراً غنائيّا وإنما شاعر الملاحظات الخاطفة أحيانا والسرديّة في أحيان أخرى.
لم يتردّد الشاعر المتزوّج والأب والذي يشبه الجميع في الحديث عن أشخاص مثله يستدعيهم على متن قطار أو في فندق أو في سيارة. يتحدّث عن نفسه أيضا في إحدى قصائده قائلا "كنتُ أحلق ذقني في أحد الصباحات/ أمام نافذة مفتوحة في الطبقة الأولى". لكن هذه البساطة خادعة.
في 1990، تعرّض توماس ترانسترومر لجلطة أخذَت منه القدرة على الكلام، سوى بصعوبة، فاستعاض عنها بتأمّل قسري إستمرّ ستة أعوام. في عزّ المرض الذي أقعده في التاسعة بعد الخمسين فقط في كرسيه المتحرك وأفقده القدرة على استخدام يده اليمنى، لازمته الموسيقى كعزاء وحيد. جاء التراجع الجسدي بعد إصداره مجموعته الشعرية العاشرة "للأحياء والموتى"، وكأنه كان يترقّب التأرجح بين إثنين: الحياة والموت. لكنه كذّب النبوءة السيئة وعاد بعد شبه تعافٍ ليصدر من وحي مقطوعات فرانتز ليتز الموسيقية مجموعة "غندول الأسى".
يحذرُ الشاعر ترانسترومر من الكلمات. يخاف أن تستخدم لمجرد الإستخدام، ولهذا السبب رأيناه يبحث على مرّ حياته عن لغة تمنح معنى عميقا للحياة بلا زخرفة. عاش بعيدا من الضوضاء الكذاّب ومات هكذا أيضا. ابتعد في حياته إلى جزيرة نائية في البلطيق منقلبا على ضرورة العيش في الضجيج. ارتبط كما اراد بالطبيعة والحياة اليومية ونبذ التزيين الذي جعل شعراء تافهين شعراء مكرّسين.
ولأنه استطاع التبصّر أنار الواقع الممل بضوء ساطع وأفسح في قصيدته لألوان الرسام رامبرانت وتقشف بيكيت، كما إلى كثرة الإشارات.
نقل شعر ترانسترومر إلى نحو ستين لغة وجعله أدونيس يعبُر إلى العربية بينما منحه روبرت بلاي فرصة الإنتقال إلى لغة شكسبير. الحركة والتغيير هما جزء من شعره وهو أحبّ الشاعر أن يتلاعب بالوقت فكتب "مرحلةٌ من الزمن/ بطول دقائق قليلة/ وبعرض ثمانية وخمسين عاما".
النوم واليقظة مألوفان عنده الى حد انهما يصيران لازمتين. ولأن النوم أحد أشكال الموت تأمّل مرات عدة في الرحيل، ليكتب في "بطاقات بريدية قاتمة": "يحدثُ في وسط الحياة أن يأتي الموت لأخذ مقاساتنا. ننسى هذه الزيارة وتستمر الحياة. لكن خياطة البزّة تستمر، رغما عنا". أما في قصيدة أخرى بعنوان "بعد الموت" فيقول في كثير من الوضوح "لا يزال جميلا أن نصغي إلى القلب وهو ينبض. لكن الطيف يبدو في حالات كثيرة أكثر حقيقة من الجسد. يبدو محارب الساموراي مفتقرا إلى المعنى، خلف درعه الذي يتّخذ شكل التنين".
ليست مصادفة أن يذكُر توماس ترانسترومر الساموراي، لأنه محارب مثله، وربما يكون هو السامواري الأخير يحمل درعه ليواجه تعثّر الحياة وخبث اللغة.