ما فحوى الرسالة العسكرية - السياسية التي أراد الجيش إيصالها في هجومه الأخير؟

الاكيد ان ثمة أكثر من داع في الحسابات الميدانية دفع قيادة الجيش الى اتخاذ قرار التحدي الجريء وشن هجوم مباغت ومن خارج كل التوقعات في اتجاه المواقع المتقدمة للمجموعات الارهابية المنتشرة في جرود رأس بعلبك القصية والوعرة، والتمركز تالياً في موقعين جديدين لهما قيمة استراتيجية عالية من شأنهما ان يكشفا خطوط التحرك والانتشار لهذه المجموعات من جهة، واعاقة حركتها وتقدمها مستقبلا من جهة اخرى.


الاكيد ايضا ان الجيش بحركته المميزة هذه اراد اولاً ان يؤسس لقواعد اشتباك جديدة ولواقع ميداني متحرك مختلف، وشاء ان يطوي الزمن الذي كان فيه الارهاب صاحب المبادرة في الهجوم زمانا ومكانا وينجح في ايقاع خسائر موصوفة في وحدات الجيش ومواقعه المتقدمة بعد أن ينتقي "الخواصر الرخوة"، ساعيا (اي الارهاب) الى اثبات ان له وحده اليد العليا في الميدان وان لديه القدرة على اعتراض اي تقدم يحرزه الجيش، او اي تغيير أو تحول يسعى الجيش الى فرضه في الواقع الميداني.


والامر الثاني الذي يتبدى من خلال هذا التطور اللافت في البقاع الشمالي هو ان قيادة المؤسسة العسكرية وفي سياق رسم استراتيجية المواجهة الجديدة التي شرعت في تنفيذها، بدأت تتحسب فعلا لدرء الاخطار المحتملة والمفاجآت التي ارتفع الحديث عنها في الآونة الاخيرة، وفحواها ان المجموعات الارهابية تعتزم القيام بغزوات في مرحلة ما بعد ذوبان الثلج ورحيل الجنرال الابيض عن السلسلة الشرقية بدءاً من جرود عرسال امتدادا الى جرود رأس بعلبك، مقدمة لفرض امر واقع جديد في ميدان البقاع الشمالي يؤسس لاحقا لمعادلات عسكرية وسياسية، خصوصا ان في طيات هذا الكلام اشارات جلية تشي بنية المجموعات الارهابية بلوغ اماكن في الداخل البقاعي لم تطأها من قبل.
ولم يكن من بد امام قيادة الجيش الا ان تأخذ هذه المعلومات على محمل الجد والاهتمام بغض النظر عن مدى دقتها وحجم واقعيتها. واستطرادا، كان بديهيا الا تبقى قيادة الجيش اسيرة الوضع الانتظاري وسجينة دائرة الاحتمالات. لذا اخذت هي زمام المبادرة في رسالة واضحة منها الى الارهاب المترصد والمتحفز، مفادها ان عليه ان يعيد حساباته وان يفكر ألف مرة قبل الاقدام على اية مغامرة والانزلاق الى اية حماقة.
ولا تخفي مصادر قيادة المؤسسة العسكرية انها من خلال حركتها الميدانية الاخيرة ادخلت تكتيكات عسكرية جديدة في عملية المواجهة المفتوحة مع ألوان الطيف الارهابي، اذ اشركت فيها سلاح الطيران المروحي، ربما للمرة الاولى بهذه الكثافة وبهذه الدقة في التصويب وتحقيق الاصابة في الهدف، مما احدث فارقاً نوعيا اوجع المجموعات الارهابية، فضلا عن سلاح المدفعية الذي ادى اغراضه التدميرية لمواقع الخصم فيما كانت المجموعات العسكرية النخبوية المحترفة تتقدم لتحتل الموقعين الاستراتيجيين (تلتي صدر الجرش وحرف الجرش) في وقت قياسي قبل ان تستفيق هذه المجموعات من واقع المفاجأة والصدمة.
وبالنسبة الى المصادر نفسها فان الهجوم اثبت ايضا ان الجيش استخدم مهارات وقدرات ميدانية واسعة اكتسبها وراكمها منذ انفتحت ابواب المواجهة على مصاريعها بينه وبين تلك المجموعات الارهابية في اوائل تموز الماضي. حينها تلقى الجيش كما صار معلوما ضربة مادية ومعنوية لا يستهان بنتائجها وتداعياتها احدثت تحولا في تفكير قيادته وتوجهاتها فأخذ على عاتقه تنفيذ سياق ميداني على الحدود وفي الداخل من عناوينه العريضة رد الاعتبار من جهة، ولكي يثبت لهذه المجموعات من جهة اخرى، والتي كانت اذذاك في ذروة معنوياتها وفي قمة تمددها في اعقاب اكتساحها المبين والسريع لمناطق شاسعة في وسط العراق وفي سوريا ايضا، انه قادر على الدفاع عن الحدود وصون السيادة.
وعليه، خاض الجيش طوال الاشهر الثمانية الماضية حرب ارادات ومواجهة لي اذرع مع هذه المجموعات الارهابية المستشرسة والمحترفة في آن، خصوصا انها شاءت من خلال ابقائها الجيش تحت وطأة الضربات المتكررة له لاحقا استنساخ تجربتها مع الجيش العراقي وجيوش عربية اخرى لها سمعتها ولها قدراتها التي يعتد بها.
ثم إن الجيش أراد من خلال ضربته اول من أمس ان يكرس ذروة رده عبر انتقاله من موقع رد الفعل الى الفعل الاستباقي والى الهجوم المباغت، ومن ثم تحقيق تقدم وبسط السيطرة على مساحات جغرافية كانت حتى الامس تشكل المدى الحيوي للارهاب.
وفي الابعاد الميدانية للهجوم الاخير ايضا بُعد آخر تحبذ القيادة العسكرية تسليط الاضواء عليه وهو ان هذا الهجوم، وان كان الاول من نوعه، الا انه لن يكون الاخير، فعلى خرائط غرفة العمليات المركزية اكثر من هدف مشابه واكثر من موقع يراد لوحدات الجيش ان تتمركز فيه في الوقت الذي تراه القيادة ملائما لكي يحصن خطوته الاخيرة من جهة ويسد الابواب والمنافذ امام اية مغامرات جديدة للمجموعات الارهابية لاحقا، علما ان قيادة الجيش تضع في حساب الاحتمالات ان الارهاب الذي تواجهه ويواجهها والذي يقيم على حزمة اطماع وبنك اهداف، ليس من النومع الذي يستسلم ويرتضي بالهزائم المادية والمعنوية، فهو حيث ينشر ما بين ثلاثة الى اربعة آلاف مقاتل محترف يقيمون تحصينات في جرود القلمون السورية وعرسال اللبنانية ومساحات اخرى في الجزء اللبناني من السلسلة الشرقية، في وضع المحاصر المجبر دوما على الانخراط في المواجهات لان اي انكفاء من جانبه يعني بداية أفول نجمه، ولان اي ضعف معنوي يبديه معناه تبدد هالته وتفشي الصراعات بين مكوناته واطيافه.
ولا ريب في ان لهذا الهجوم ابعاداً سياسية ترفض قيادة الجيش التطرق اليها، ولكن لا يمكن اي مراقب الا ان يقرأها بين السطور وفي خلفيات الحدث خصوصا في ضوء الواقع السياسي الداخلي المتهافت والمأزوم. ومن هذه الابعاد ان الجيش يؤدي ما هو ملقى على عاتقه، وانه يرقى في معارج الصعود من حال الدفاع الى حال الهجوم والمبادرة، في حين ان السياسيين غارقون في لجة الصراعات والحسابات الضيقة، وفي ذهن قيادة الجيش هدف التحول من قوة درء الى قوة ردع تنزع من الارهاب ورقة استنزافه وإنهاكه بشكل شبه يومي على غرار ما هو فاعله مع نحو 4 جيوش عربية.


ibrahim.bayram@annahar.com.lb