تيرينس ماليك كبيرٌ مهما صغرت سينماه!

في العالم، قلة نادرة من السينمائيين يمكنهم التفاخر بأنهم قادرون على انجاز الفيلم الذي يريدونه، بالحرية المطلقة والكاملة التي يحلمون بها، حرية متحررة من كل قيد او شرط، بعيداً من ضغوط اصحاب المال وذوي القرار. الأميركي تيرينس ماليك من تلك الطبقة النادرة التي فرضت نفسها عبر السنوات في المشهد السينمائي، محتكراً الأدوار ومختزلاً الأنماط. فهو من النادي الضيق الذي تنتسب اليه حفنة من السينمائيين الجهابذة الذين في حوزتهم "كارت بلانش"، يعملون بموجبها، فينجزون كلّ ما يعبر في بالهم بلا حسيب أو رقيب.


سبعة أفلام في أربعين عاماً، انقطاع من 1978 الى 1998، صمت مطبق بعيداً من الاعلام، غياب عن المهرجانات (رغم انه يتردد انه كان يراقب من خلف الستارة، ردود المشاهدين يوم عُرض "شجرة الحياة" على الصحافة في كانّ)... هذا كله عزّز مكانة المخرج السبعيني، استاذ الفلسفة السابق، وحوّله اسطورة على غرار ستانلي كوبريك. وقد يكون الوحيد حالياً، القادر على جمع المال والاستعانة بنجوم لفيلم لا ينطوي على أيّ قصة بالمفهوم التقليدي للكلمة. لا حبكة، لا تطوّر واضحاً للحوادث، انما خربطة وتعطيل ممنهج لكل ما يتم توظيفه كخيط رفيع داخل المنظومة الحكائية.



 خلال تصوير "فارس الكؤوس".


ماليك من القلائل الذين لا تهمهم موضعة سينماهم، لا في سينما حديثة ولا ما بعد حديثة، ولكنه أصيب عبر السنوات بهذا الفيروس الذي يجعل من كل فيلم له يشمل العالم ومخلوقاته ويطال النجوم والسموات، بطريقة بانورامية، كأنما يريد معانقة المصير الانساني بأكمله في عناق واحد. من النادر أن تجد سينمائياً يعود ويكرر نفسه ويجد دائماً زوايا اشتغال جديدة. حتى الجراد الذي يصوّره بالـ"كلوز ابّ"، يمتلك أمام عدسته حضوراً مختلفاً. أمّا الروحانية المسيحية التي هي في صميم عمله، فتتجلى بوضوح في الكلمات غير المكتملة التي نسمعها على لسان الشخصيات، وهي على ارتباط متين بالإنجيل وتعاليمه.


في جديده، "فارس الكؤوس" (عُرض في مسابقة مهرجان برلين 65)، يتكرس هذا الأسلوب بشكل نهائي كونه يصل الى ذروته التعبيرية والى اللحظة التي ندرك بسرعة ان لا لحظات من بعدها. كأن الأمر يتعلق بأبوكاليبس سينمائي. اذا كانت "الماليكيات" لا تزال تهتم بالعالم وما يدور من حوله في أفلامه الماضية، فهنا ثمة قطيعة واضحة مع العالم. هذه القطيعة تتجسد في الصومعة الأسلوبية التي حشر ماليك نفسه فيها. بيد أن مخرجنا يتظاهر بعكس ذلك، وهنا قوة سينماه وذكائها، ايّ أنه يتظاهر بأنه لا يزال جزءاً من هذا العالم، وعلى صلة به.



 كايت بلانشيت في فيلم ماليك الجديد.


"فارس الكؤوس" ليس عن عزلة سيناريست هوليوودي (كريستيان بايل) بقدر ما هو عن عزلة ماليك نفسه، الذي، على الرغم من مكانته في السينما، ينبعث منه هذا الشعور- والحال نفسها عند العديد من كبار السينما- انه داخل الأشياء وخارجها. فهو يعيش علاقة اعتراف/نكران مع السينما، محاولاً القفز بها الى الصفاء، من خلال إطعامها الموسيقى التفخيمية والكتب المقدسة ولوحات كبار معلّمي الفنّ التشكيلي. يقف ماليك في اعلى البرج، ليصوّر شخوصاً ورموزاً واستعارات وافكاراً تتهاوى، وكله اقتناع بأنه يملك تلك القدرة اليسوعية على انقاذها.


ماليك هو أيضاً وخصوصاً، السينمائي الذي يختصر الطريق بين فنّ الاستعراض والأفكار الفلسفية الكبرى التي تلح على سؤالَي "من أين نأتي؟ الى أين نذهب؟". هذه الأفكار هي الخصمّ الأكبر لـ"الشوبيز". فالترفيه لا ربّ له ولا روحانيات، وغير منشغل بأسئلة الوجود. في هذا المعنى يمكن اعتبار ماليك فيلسوف السينما الذي يجعل أبطال هوليوود يضلّون طريقهم الى مسرحه التراجيدي. الأهمّ انه، خلافاً لفلاسفة السينما، يقيم لجماليات الصورة وزناً، وهذا نادر حصوله. فالسينما الأميركية تميّز جيداً بين مخرجين باطنيين ومخرجين ظاهريين. نادراً ما يجتمع الباطن والظاهر في وصلة سينمائية واحدة.


ماليك في "فارس الكؤوس" ليس فقط مجرِّباً أبدياً يلهو بالمُشاهد بلا أي شعور بالذنب، بل أيضاً رسّام تجريدي يستعمل ريشته بدلاً من الكاميرا ليضيف لوناً هنا ولوناً هناك. يستعمل الممثلين كالرسّام الذي يستعمل ألوانه: الكلّ موجود أمامه ويلجأ اليهم ساعة يشاء. وعندما يختارهم، لا يعطيهم ايّ ضمان عن الفيلم الذي سيثمر عن تعاونهم معه. ككلّ رسام، يطلق العنان لمخيلته اثناء الشغل، ليس قبله وليس بعده. رغبته في التجريد هنا، لا يمكن قراءتها بمعزل عن رغبته في تجاوز السينما كإنجاز تقني من صورة وصوت. يقال إن كلّ ما هو نافر في طباع الانسان، يتضخم مع العمر. بناء على هذا، أصبح ماليك لا يقبل اليوم أقلّ من قطعة سينمائية تختزل اللوحة والكتاب والسمفونية والقصيدة.



 ريتشارد غير في "أيام الجنة" لماليك.


لهذا السبب، لا يحتاج المعلم أن يعلّق على ما ينجزه، لأن لا كلمة تفيه حقّه، ولأن سينماه تجربة، رحلة، إبحار. أصلاً، ما الفائدة من شرح لوحة لبيكاسو أو قصيدة لبودلير؟ كل إشارة كلامية منه لا بدّ أن تولّد إشارات أخرى تطيح حرية العمل وتخرجه عن مساره. ماليك، تماماً كالله، لا يشارك خلقه مع أحد، وعندما يشرع فيلمه على التأويلات هذا لا يعني أنه يتيح للمُشاهد أن يكمله على هواه ويحمّله المعاني، بل ليضعه أمام تلك اللوحة التي لا أطراف لها أو حدود، تماماً كنهاية الطريق العصية على البلوغ التي ينهي بها فيلمه الجديد.


 


[[video source=youtube id=TmnIITyZKDk]]