عودة في قداس الميلاد: لنتخلَ عن انتماءاتنا ونمد أيدينا للآخرين

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة خدمة قداس الميلاد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في وسط بيروت. وبعد قراءة الإنجيل المقدس، ألقى عودة عظة قال فيها: (...) منذ أكثر من ألفي عام تجسد الإله ليخلص الإنسان. ماذا فعل الإنسان؟ هل فهم هذه الرسالة الخلاصية وقبلها أم ما زال في المعصية قابعا وللخطايا مقترفا؟ في مثل هذا اليوم من العام الماضي قلت إن لبنان أصبح بيتا بلا أبواب وأخشى أن يكون بلا سقف أيضا، وأبناؤه إخوة ألداء يتربصون بعضهم ببعض عوض أن يتكاتفوا لدرء الرياح والأنواء. هل تغير شيء في لبنان والمحيط؟ ربما، إنما نحو الأسوأ، لأن الرياح اشتدت وتكاد تهدم كل شيء، والأحقاد تضاعفت والتعصب الأعمى ازداد شراسة والتطرف غزا النفوس الضعيفة وراح يحصد الأبرياء خطفا وذبحا وتنكيلا وتعذيبا. محزن ما شهدناه في العام المنصرم. إرهاب متفش في لبنان والمنطقة، إزهاق للأرواح البريئة بلا سبب، واعتداء على كرامات الناس دون مسوغ، واستهانة بحياة المواطنين دون رادع. زد على ذلك ما يحصل في المنطقة من اعتداء على المقدسات وتدمير للكنائس والأديرة، ومحو للتراث والذاكرة، وإلغاء للآخرين وفرض لون واحد ودين واحد وتهجير جماعي لفئات من البشر لا ذنب لها إلا أنها مختلفة، حتى أصبح بعض البشر ينافسون الحيوانات في نزعاتهم العنيفة والدمار الذي يسببونه. في القرن الحادي والعشرين، أي بعيدا جدا عن الجاهلية وعصور التخلف، هل يعقل أن يقتل الإنسان أخاه فقط لأنه يخالفه في الفكر والرأي أو يختلف عنه في الإنتماء الديني أو السياسي؟ والمحزن جدا أن هناك صمتا تجاه وحشية القتلة وهمجية المجموعات المتطرفة، وكأن من يقتلون ويعذبون ويقهرون ويهجرون ذباب أو حشرات لا قيمة لها. وإن سمعنا احتجاجا في ناحية من أنحاء العالم فبصوت خجول يكاد لا يسمع".


وقال عودة: "اما في لبنان، فما زال البلد بلا رأس، أو أصبح بأربعة وعشرين رأسا، وما زالت التجاذبات الإقليمية والدولية تنعكس على الأطراف اللبنانيين فيعيقون انتخاب رئيس للجمهورية، ورئيس الجمهورية هو رمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه. هذا ما تنص عليه المادة 49 من الدستور. الآن، ومنذ ثمانية أشهر، وحدة الوطن بدون رمز، وليس من رئيس يسهر على احترام الدستور والمحافظة على الإستقلال. ألا يعيق هذا الوضع عمل الدولة؟ ألا ينال من سمعتها في الخارج؟ ألا يشكل خطرا في الداخل؟ غريب أمر اللبنانيين. عندما كان انتخاب رئيس الجمهورية يحصل بتدخل من الدول الأجنبية كانوا يتململون، وعندما سنحت لهم فرصة انتخاب رئيس بإرادتهم، لانشغال الدول بأولويات أخرى، يفوتون الفرصة لعلل وأسباب يموهون بها خطاياهم ومصالحهم"، سائلا "هل التوافق الذي يطالب به البعض من الديموقراطية؟ وهل التعطيل الذي يمارسه البعض من الديموقراطية؟ وهل التشبث بالرأي دون النظر إلى مصلحة الوطن من الأخلاق وشيم الكبار؟".


ولفت الى ان "شغور كرسي الرئاسة يمس كل لبنان وليس فئة فيه. ومن حق اللبنانيين أن تكون لهم جمهورية كاملة العناصر، محترمة، قادرة وفاعلة.
ألا يستحق لبنان واللبنانيون أن يتخلى من يدعون الزعامة عن مصالحهم الخاصة وحساباتهم الصغيرة وأن يتجاوزوا أناهم أو يضحوا بها من أجل المصلحة العامة، مصلحة الجميع. نحن بحاجة إلى القليل من التواضع والكثير من المحبة والشعور بالمسؤولية والتخلي عن الذات والمصلحة عند المسؤولين لكي يخلصوا الوطن. لبنان لم يخل من الرجال الذين يتمتعون بالكفاءة والوطنية والحكمة وحسن الدراية. وهم كثيرون. لم لا يتوافق النواب على أمر هو من صلب واجباتهم:الإجتماع لانتخاب رئيس من بين هذا العدد من الكفاءات. أليست هذه هي الديموقراطية التي يتغنون بها؟ فكما قرروا الإجتماع من أجل تمديد ولايتهم (عجبا كيف تم تأمين النصاب)، لم لا يقومون بهذا العمل البطولي مرة أخرى، واضعين مصالحهم وحساباتهم وانتماءاتهم جانبا، ناظرين فقط إلى مصلحة لبنان وأبنائه وأبنائهم هم أيضا. هنا لا بد من القول أن النيابة هي وكالة تعطى من الشعب لفترة محددة، وأن تمديد هذه الوكالة هو مصادرة لقرار الشعب وانتهاك لحق من حقوقه هو انتخاب ممثليه. ألم يتساءل السادة النواب، عندما خرجوا من جلسة التمديد، لماذا احتج المحتجون بوسائل شتى؟ ألم يتساءلوا لماذا رشقوهم بشتى النعوت؟ ألم يتأثروا باحتجاج هؤلاء المحتجين، على قلتهم؟ ألم يقرأوا ما كتب في وسائل التواصل الإجتماعي؟ هل تعطيل عمل المجلس وتعطيل جلسة انتخاب رئيس حق من حقوقهم أو أن من واجبهم، كممثلين للشعب، القيام بواجبهم على أكمل وجه؟ ألا يعاقب الموظف في الإدارة العامة وفي القطاع الخاص إذا تهاون بالقيام بواجبه أو تغيب عن وظيفته؟ فلم يستهين ممثلو الشعب بالمواطنين وحقوقهم؟".


وتابع: "هنا لا بد من تكرار ما نقوله دائما. على الشعب أيضا أن يعي مسؤوليته وأن يحاسب ممثليه لا أن ينقاد وراءهم بلا دراية أو تفكير. على الشعب أن يعرف مصلحته لأن هذه الأرض التي هي وطنه، هي هبة له من الله وعليه المحافظة عليها وعدم التفريط بأي شبر منها. عليه أن يحسن اختيار ممثليه لإدارة هذه الأرض التي به (الشعب) تصبح وطنا وبمؤسساتها القوية تصبح دولة. فإذا ما تقاعس أحدهم يحاسبونه وإذا ما قام أحد بواجبه كاملا يشكرونه. لكن المشكلة أننا نعيش تحللا سياسيا واجتماعيا ولا مبالاة عامة. حتى القوانين في لبنان يجب أن تصاغ على قياس المسؤولين ولو كانت على حساب المواطنين" مضيفا "قانون سلامة الغذاء مثلا نسمع به منذ أكثر من عشر سنوات لكنه ما زال قابعا في الأدراج بسبب تمسك الوزراء بصلاحياتهم. وماذا عن صحة المواطن؟ هل يجب أن تفسد السياسة كل شيء في لبنان، حتى ما يتعلق بصحة المواطن؟ هل تصدقون أن السادة النواب ما زالوا مختلفين حول ضرورة إقرار قانون يعنى بسلامة الغذاء؟ لا يمكن المس بصلاحية وزير إنما لا بأس إن مست صحة المواطن وديست كرامته وهددت حياته. وآخر الغيث ما شاهدناه بالأمس في أقبية مطار بيروت من أطعمة وأدوية فاسدة، وقد سماها أحد المسؤولين مزبلة. طبعا لا بد من شكر كل مسؤول يتحمل مسؤوليته بضمير حي ويفضح كل مخالفة أو تعد على القانون والسلامة العامة، ونأمل من جميع المسؤولين عدم التهاون مع كل ما يؤذي المصلحة العامة، والتعاون معا من أجل الخير العام. نظافة الطعام لا تهم. نظافة الكف لا تهم. نظافة الضمير لا تهم. نظافة البيئة لا تهم. يبدو أن هناك عداوة قديمة بين اللبنانيين والنظافة. في سياق الكلام على المسؤولية، أود أن ألفت نظر الإعلاميين اللبنانيين إلى ضرورة أن يكونوا أمناء للرسالة التي اختاروها، وهذه الأمانة تتجلى في قول الحقيقة ولا شيء إلا الحقيقة. الإعلام سيف ذو حدين، إن أحسنوا استخدامه يساهمون في بناء الإنسان والوطن، وإن أساءوا فإساءتهم مدمرة. لذا عليهم دائما تقصي الحقيقة والتعبير عنها بطريقة بناءة. مسؤولية الإعلاميين كبيرة لأن وسائل الإعلام تدخل كل البيوت لذلك يجب ألا تكون مطية لأحد أو بوقا لأحد أو وسيلة لانتهاك الحرمات أو مس الكرامات مجانا وبلا سبب".


وختم عودة: "زمن الميلاد زمن مصالحة بين الله والإنسان، وبين الإنسان والخليقة أجمع. بتجسد المسيح لم تعد طبيعتنا أسيرة الشر بل فتح أمامها طريق التأله. مشيئة الله الا يبقى أحد خارج درب الخلاص. الإله المتجسد أعد كل شيء من أجل خلاصنا. يبقى أن نقبل الدعوة. فلنرم عنا إنساننا القديم بكل خطاياه وسقطاته ولنرفع أنظارنا إلى المسيح الذي طأطأ السموات وانحدر إلينا لينتشلنا من هوة الموت إلى حياة الملكوت. لنتخل عن أنانياتنا وانتماءاتنا ومصالحنا ولنمد أيدينا للآخرين ونتكاتف من أجل خير وطننا وإنسانه. أعاد الله عليكم هذا الموسم المبارك بالخير والصحة والسلام والاستقرار، وأعاد إلينا أخوينا المطرانين بولس ويوحنا سالمين، كما نسأله أن يعيد جميع المخطوفين إلى ذويهم، والمهجرين إلى ديارهم، وأن يبلسم قلوب الحزانى ويشدد عزيمة المقهورين ويتقبل في ملكوته أرواح الذين سقطوا دفاعا عن هذا الوطن وأخص منهم شهداء الجيش وكل القوى الأمنية الذين تطاولت عليهم يد الشر وحرمتهم نسمة الحياة".