الآن الآن وليس غداً

"دولة فلسطين" في سوريا والعراق ولبنان وسائر بلاد العرب


نستطيع نحن، عرب الشرق الأدنى، أن نحتفي - الآن الآن وليس غداً – بفلسطين المحرَّرة والمستعادة، لكنْ خارج فلسطين. فها هي سوريا قد صارت هي فلسطيننا الثانية، بعدما صارت أرضاً للبوم والموت والخراب، يتنازعها الشرّيران الحليفان، نظامها البعثي الأسدي "العلماني"، ونظامها "الداعشي" الإسلاموي. وها هو العراق وقد صار هو الآخر فلسطيننا الثالثة، بما يشهده من تقسيم وتشرذم وكوابيس ومجازر. أما لبنان فالقاصي والداني يعرف أن الكلّ يبلّ يده برقبته، وأن أرضه سليبة ومستباحة، وجمهوريته باتت مقبرة، وهو مرآةٌ لفلسطين، بل أشبه ما يكون بفلسطين نفسها. فماذا نريد أكثر مما هو حاصلٌ لنا في ديارنا الشرقية هذه؟ هل يجب أن نتحدث عن فلسطين التاريخية، وهي بالكاد بقي منها ما يذكّر بترابها، الذي، على قول الرائين المتشائمين العارفين، لن يبقى منه شبرٌ واحدٌ، في ظلّ هذا الكيان الصهيوني الغاصب، محميّاً بما لذّ له وطاب من مظلّات دولية هائلة، ومن تواطؤٍ عربيٍّ خانعٍ وساكت، لم يسبق له مثيل؟
لن تكون فلسطين لنا، في ضوء هذه المعادلات المذكورة. ففلسطين ليست شعاراً، ولا طابعاً بريدياً، ولا ماضياً آفلاً، ولا حنيناً غابراً، ولا أغنيةً، ولا أيقونةً، ولا أسطورةً، ولا قصيدة. بل قضية. وحقيقة.
يمكننا أن نكون معدومي العافية، فنظلّ نعامل فلسطين هكذا. لكن الوقت لم يعد وقتاً ملائماً لترفٍ "عروبويّ" كهذا. فلسطين قضية، وحقيقة، لكن الجميع يعاملها باعتبارها قضيةً ميتة، وحقيقة سرابية. أما إذا كان ثمة مَن لا يزال في وجدانه ذرّةٌ للكرامة، ولا يزال يعتبر فلسطين جديرةً بالحياة والحرية والعروبة الحضارية، فليُشهر ما ينبغي له أن يُشهره لكي يجعلها، هنا، وفي العالم كله، تشغل الواقع الدوليّ، والواقع الجيوسياسي، لا اللغو الكلامي فحسب.
العرب، أقصد الدول والأنظمة والحكّام، لم يعودوا صالحين، بعد أكثر من خمسة وستين عاماً من الفشل والكذب والخنوع والتواطؤ والخيانة، لا للتكلم باسم هذه القضية، ولا لإجبار العالم على إحقاق الحقّ السليب.
لكن فلسطين تريد أرضها، وتريد شعبها، وتريد دولتها.
كلّ كلامٍ إضافيّ معسول، يجب ألاّ يكون له محلٌّ في هذه الغمرة الحاسمة من تاريخ المنطقة العربية.
سؤالنا الجوهري: ماذا يجب أن يفعل هذا العالم العربي، الآن، وللتوّ، في الأمم المتحدة، في مجلس الأمن، على الأرض، وفي أروقة المصالح والعلاقات الدولية، لإرغام النظام الصهيوني ومؤيديه على انتزاع الحدّ الأدنى الذي يشرّف أرض الإسراء والمعراج وأرض المسيح على السواء؟!
الفلسطينيون، هؤلاء الذين يقيمون في ما بقي من أراضي الضفة، وأولئك الذين يعيثون في غزّة (يا لعار أولئك وهؤلاء!)، ماذا يجب أن يفعلوا، الآن، وللتوّ، لئلا تظلّ دماؤهم، وحياتهم، وحياة أولادهم، تنزف إهداراً، ومن دون جدوى؟! ألا يجب أن يوحّدوا قرارهم الذاتي، أيّ قرار، فيكونوا كلاًّ واحداً في مواجهة سياسة الاستئصال الوجودي المنظّم؟!
أما رافعو شعارات الذبح والقتل والترهيب والتكفير الإسلامويون، الذين يخرّبون الدين الحنيف، ويشوّهون معناه الجوهري، ويحرفونه عن رسالته، فلماذا لا يفعلون شيئاً مفيداً في هذا الشأن الوجودي؟ لماذا يقتلون العرب المسلمين والمسيحيين، فضلاً عن الكرد والإيزيديين، بدل أن يقتلوا الإسرائيليين؟ ألأنهم، هم أيضاً، عملة صهيونية رائجة؟ أم لأنهم أصحاب أولويات، وتخريب الدين الإسلامي هو أولويتهم الأولى؟!
... و"حزب الله"، ألا يجب أن ينقل جنوده من داخل سوريا إلى حيث يجب أن يكونوا، للمساهمة، الآن، للتوّ، في هذه المعادلة المطلوبة؟!
هل يجب أن أطرح السؤال، الآن، وللتوّ، على هذا النظام السوري البائد الذي يلقي براميله المتفجرة على شعبه، ويبيد أطفاله، ويخرّب بلاده، فيذهب أحد طيّاريه، وإن في مهمة انتحارية، لإلقاء برميل واحد – برميل واحد فقط - فوق شبر أرضٍ فلسطينية مغتصَبة؟!
أما اللبنانيون، فعارهم أنهم لا يعرفون ماذا يرتكبون في حقّ هذه الجوهرة الشرقية الفريدة، التي تُدعى لبنان. وهم، في غفلتهم الرهيبة عما يجري في بلادهم، وعجزهم عن درء الخطر عنها، كما تخلّيهم عن فلسطين، إنما يطلقون رصاصة الرحمة على لبنانهم، من حيث يدرون أو لا يدرون.
الكيان الإسرائيلي قد يكون يؤذيه قيام "دولة فلسطين" في العالم، في مجلس الأمن، وفي الأمم المتحدة. فلنؤذه قليلاً.
بالنفط، بالمال، وبمبادلات المصالح الدولية المعقدة، وبسوى ذلك من الرؤى العقلية والنضالية المتقدمة، يستطيع العرب – إذا شاؤوا أو استفاقوا - أن يغسلوا القليل من عارهم. فليغسلوا هذا القليل القليل... لئلاً يظلّوا أمةً صوتيةً، لا حول لها ولا قوة.
أما القوى التاريخية والجديدة، الحيّة، في كلٍّ من لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، فيجب أن تعلن معاً وفي آن واحد: الآن الآن وليس غداً، أجراس العودة فلتُقرع، لا في فلسطين وحدها، بل أيضاً وخصوصاً في لبنان والعراق وسوريا... على السواء.


* * *


بيانٌ شخصيّ



عندي طعامٌ كثير. قليلٌ من الخبز. وكثافةٌ مركّزة من الأوجاع والأمل. لا بدّ أني أنتمي إلى سلالةٍ منقرضة من الكائنات الافتراضية. وإلاّ كيف يستطيع امرؤٌ أن يكتفي بهذا القدْر من الكتب، وأن يعيش في عرزالٍ، تحت شمسٍ مجهضة لا تكفّ عن الأنين؟! ليلَ أمس، لم أنمْ، لا بسببٍ من كوابيس وترّهاتٍ، بل لامتلاء الهجس بشجون الهواء ومراميه. قلتُ لنفسي، يجب أن أفعل شيئاً لترميم الليل. لكنّي لم أحرّك ساكناً، ولا روحي طالبتني بأشياء مترفة؛ من مثل أن أخرج إلى الشرفة وأصرخ في الليل أن يغادر مسرعاً إلى حيث يمكنه أن يطمئنّ إلى فجره الهرِم. لم أفعل ما ينبغي لكائنٍ مثلي أن يفعله من أجل حياةٍ وحيدة. كنتُ أبتسم في سرّي من أجل أن أُقنع العقل بضرورات السكوت على حقائق كهذه. ليس لغاية التواطؤ، بل لغاية أن يجرفني نهرٌ همجيٌّ إلى حيث يذهب كعادته في ليلٍ مدلهمٍّ كهذا. أما المطر فلم أُحسنْ تذكيره بلزوم أن يبلّلني لأني كنتُ مبلَّلاً بما فيه الكفاية. حتى لَشعرتُ بأني قادرٌ على إرواء جنينةٍ سحيقة كتلك الحديقة الداخلية التي تنبسط في أعماق رأسي. وإذ كنتُ أتوقّع أن يتصل بي أحدٌ، أو أن يزورني في الهجعة الأخيرة من الليل، فلأني لم أعرف أن أقيس المسافة التي تفصلني عن العالم الخارجي. فكيف إذا كان الشخص المحتمل مجيئه مقيماً في كوكبٍ محتضَنٍ من كائناتٍ حقيقيةٍ وافتراضية أخرى، لا سبيل إلى إقناعها بزيارةٍ متهوّرة كهذه، في أعماق هذا الظلام الوجودي. وعندما غفوتُ قليلاً، أدركتُ أن الحياة مستمرةٌ في الخارج كما يُراد لها أن تستمر، وأن كائناً مثلي لا يستطيع أن يغيّر شعرةً واحدة في رأس العالم، لأنه أقلّ فاعليةً من تلك الوردة الوحيدة التي قد تكون لا تزال فوّاحة العبير في شعرية الحياة. وعندما استيقظتُ، لم يكن قد بقي من الليل إلاّ أقلّه الضئيل، فتراءى لي أنه ينبغي لشخصٍ مثلي أن لا يطلب من فتنة الوردة أن تصغي إلى هلوساته في الشعر، ولا إلى هلوساته في الحياة، لأن من شأن ذلك أن يخربط نظاماً في الحديقة الكونية، لا أحد يريد خربطته إلاّ الشاعر، ومَن يُستدرَج إلى فخاخه داخل الكلمات. ثمّ ذهبتُ إلى الحياة اليومية، وها أنا خالي الوفاض كشخصٍ عاطلٍ من الموت. كشخصٍ عاطلٍ من الحياة.


akl.awit@annahar.com.lb