عِبَر في الذكرى


ها هي الذكرى تحل مجدداً بتاريخها الرسمي الذي يعرفه الجميع، فيما الذكرى لدينا تتجدد كل صباح ومساء. وهي تتمدد كل يوم في قلوب اللبنانيين الشرفاء الذين لا يستسلمون ولا يساومون، على رغم ما يشاهدون من سيناريوات لأفلام ومسلسلات مصطنعة تحاول ان ترسم واقعاً جديداً لا نرضاه في العمق، بل نرضخ له حتى لا يقال اننا نقف في وجه الوفاق الوطني أو نعطّله.
ها هم اليوم يفتشون عن مقعد وزاري أو نيابي أو وظيفة فئة أولى أو عاشرة، فيرضون الانقلاب على أنفسهم وعلى مواقفهم للأمس القريب، ويقنعون أنفسهم. تتحرك آلة الدعاية السياسية في دمشق وطهران، ويطلع صداها في بيروت، دفاعاً عن سوريا التي يعبّدون الطريق اليها، لتعود حضنهم وملجأهم وربما مركز قرارهم.
وتطلع وسائل اعلام لتدين "فتح الاسلام" وتبرئ النظام السوري مستبقة قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومتجاوزة القضاء اللبناني الذي يشعر في كثير من الاحيان، كأنه غير معني، بعدما سلّم أموره الى القضاء الدولي، وتعمل الأجهزة الأمنية في النسق ذاته، من دون ان تقدم لنا تحقيقاً واضحاً عن هوية "فتح الاسلام" وعن تأسيسها وعن الدعم الذي توافر لها وعن الغطاء السياسي الذي حرّك عملها، وماذا عن شاكر العبسي الذي كان سجيناً في سوريا قبل ان يطلق الى العمق اللبناني؟
لم يتطرّق البيان الحكومي الى حلول جذرية للملف الفلسطيني، رغم بوادر حلول لا نفهم طبيعتها، عادت لتنطلق مع "اللقاء الديموقراطي" ورئيسه النائب وليد جنبلاط، بدأت بمقبرة ولا نعلم أين ستنتهي؟
تعود الذكرى أليمة، وليست محبطة، كما يتصوّر البعض، لأني أعود إليك، إلى ما قلته سابقاً اثر التحالف الرباعي في انتخابات 2005، من ان الشعب هو 14 آذار، وان الشباب هم عماد هذه الحركة النضالية، وان إرادتهم أقوى من السياسيين، وحساباتهم، وربما صفقاتهم.
لذا أجدني اليوم جامدة. نعم. ولكن غير متراجعة، وغير متخلفة عن اللحاق بركب المستقبل. فالمستقبل يصنعه أبناء الشهداء واصدقاء الشهداء ومحبو الشهداء. لن ينسى أنصار رفيق الحريري، ومحازبو بيار الجميل وانطوان غانم، وقرّاء جبران تويني وسمير قصير، واصدقاء وليد عيدو، ومحبو باسل فليحان، وعارفو فرنسوا الحاج ووسام عيد، وكل اصدقاء مروان حماده والياس المر ومي شدياق، وكل أفراد عائلات شهداء الظل الذين تناثروا أشلاء في الهنا والهناك. هؤلاء اذا ما اجتمعوا، فإنهم، مع عائلات آلاف شهداء الحرب اللبنانية، والحروب، حروب الآخرين على أرضنا، الى شهداء الجنوب الصامد، هؤلاء قادرون على رسم معالم جديدة للبنان، لأنهم أيقنوا معنى الشهادة، وذاقوا معنى الألم، ولم يعودوا مستعدين للتنازل بعدما بذلوا الغالي والرخيص.
واني أتفهم تماماً موقف سعد الحريري وشعوره خلال زيارته المرتقبة الى دمشق كرئيس للحكومة، لأنه حتى لو ثبت عدم تورّط النظام هناك، فإنه لن ينسى محاولات العرقلة، وفي بعضها الاذلال الذي مورس على الرئيس الشهيد، كما على آخرين من رؤساء ووزراء ونواب ومسؤولين، ووسائل اعلام وغيرها.
نعم نريد ان نتطلّع الى المستقبل. ولكن أي مستقبل اذا لم يبنَ على منجزات الاستقلال الثاني الذي تحقق بانسحاب الاسرائيلي والسوري من الاراضي اللبنانية؟ أي مستقبل اذا لم يقدّر شهادات الناس؟ وأي مستقبل اذا لم يكن خالياً من أي سلاح غير شرعي؟ وأي مستقبل اذا لم تتحرر الارادة كاملة؟
المستقبل أمامنا، وهو ما سنبنيه معاً، بالنضال السياسي، والفكري والاجتماعي، لا بالسلاح، الذي مهما كان "مقدساً"، فإنه سيصير ميليشيوياً، عندما يتحوّل الى الداخل، للتقاتل، ولفرض الرأي والارادة والقرار، لأنه حينذاك سيعيد التاريخ دورته وسنجلب الخارج ليحتلنا مجدداً، وهذا ما لن نرضاه.


نايلة تويني