بين جبران و"النهار" في بناية البرج \r\n"حلم ليلة صيف" انقضى سريعاً

هيام القصيفي

حلمه في "نهار" آخر، انكسر في اول الطريق، وانكسر معه حلمنا الجميل، الانيق، المشاغب. رحنا معه ضحية المفارقات، والصدف المتقاطعة عند أحداث ومناسبات. نستعيد الذكرى السنوية لاغتيال جبران تويني، كمناسبة احتفالية، رسمية. لكن مناسبتنا نحن، نعيشها يومياً، حين يطل رجل أنيق، الى قاعة التحرير في الطبقة السادسة من مبنى "النهار" في وسط بيروت، نتطلع اليه فنخاله هو، يلقي علينا تحية المساء بضحكة عريضة، لا تزال ترن في قاعاتنا.


مناسبتنا الخاصة نحييها يومياً حين نسمع خبراً، كنا اعتدنا أن نتصل به لنقوله له، او حين كان يتصل بمن تربطه به علاقة صداقة ومودة، ليسأله راياً أو خبراً، او يكلفه بمهمة قد تكون سياسية أو صحافية. صوره بيننا، ضاحكاً، نرمقها، ونقول له يومياً "ماذا فعلت بنا؟". أحياناً نتعامل مع غيابه، وكأن "الاستاذ" ليس هنا، بل في باريس، نسمع صوته عبر الهاتف. بعض منا، لا يزال يحتفظ برقمه واسمه في لائحة أرقام هاتفه الخليوي، وبعضنا الآخر استخدم قسم جبران وصوته رنة لهاتفه. وبعضنا يفتقد رسائله الالكترونية، مهنئا بعيد الميلاد او بأي مناسبة اخرى. جلساتنا معه في الطبقة السادسة من مبنى البرج، كما في الطبقة التاسعة من "نهار الحمرا"، تختصر حكايتنا معه وحكاية جبران في "النهار" التي أحب، وجعلنا نحبها، لأنه كان روحها.
بين جبران و"النهار" حكاية عشق. وبيننا وبينه حكايات، عن الجريدة التي أرادها منفتحة، ديموقراطية، حرة، تنفض عنها غبار الأعوام والتقليد، فجاراه كثير وعانده آخرون. هي الجريدة التي أرادها أن تكون شابة، حلوة، قوية، وثابتة في رأيها، لا تنكسر او تلين. ولكن الاهم انه أرادها ايضاً بحسب ما يقول محبّوه ان تكون ايقونة لتاريخ لبناني عريق لا لبس فيه، تعبر خير تعبير عن ذلك الارتباط الوثيق اللبناني والمسيحي، وهو المؤمن بامتياز، بوطن اسمه لبنان. واخطر ما فعله جبران في تلك المرحلة القصيرة من تسلمه دفة "النهار" انه كرّسها مناهضاً شرساً لعقائد وسياسات اعتبرها لا تتلاءم مع التطلعات اللبنانية الصرف، وأرسى فيها خطاً تصاعدياً مقاوماً، فجعل منها رمزاً كما رموز ثقافية وسياسية ودينية في لبنان. ما جعلها هدفاً، لكسر صورة الرمز.
حكاية جبران مع "النهار" هي ايضاً حلمه عن المبنى الذي أغرم به، ولم يهنأ به الا لعام واحد. قصص عن جريدة أرادها مختلفة، ومميزة، وعن مهنة أراد ان يخلق فيها نوعاً من التفاعل غير المبني على حساسيات شخصية ومحسوبيات، رغم انه كان يدرك ان الانتماءات السياسية لكل صحافي باتت احياناً اقوى من المهنة، في زمن "ثورة الارز" والاكثرية والمعارضة. لكن سقفاً واحداً أراد جبران تويني أن يظلل سقف صحافيي "النهار"، سقف الاستقلال والسيادة والحرية.
علاقة جبران مع "النهار" هي علاقته الخاصة مع المبنى الذي نقل اليه "نهار" القرن الحادي والعشرين وهي علاقته بالمهنة، وبالصحافيين التي ربطته بكثير منهم علاقة مودة مميزة، وبالصحيفة التي أراد ان ينقلها الى الحداثة، عبر مراحل متقطعة، بدءاً بنهضة اعلامية وضع اسسها بمسودات وافكار متلاحقة، لكن الاحداث التي عصفت في لبنان منذ محاولة اغتيال خاله مروان حماده، أخّرت برنامجه الذي رسمه في خياله، وعلى الورق، وصار هاجسه اليومي.
هوس جبران بالصحافة والسياسة مارسه بأناقة مترفة. لذلك تحول مبنى "النهار"، الذي زاوج فيه بين الهوسين، مفخرته الحقيقية، يتباهى بها، ويعرضها كانجاز حقيقي، توج بها حياته القصيرة، من دون ان يدري.
بين عامي 1993 و1994، وفي موازاة عمله في "نهار الشباب"، بدأ جبران يطل بقوة في الجريدة، التي كان على قاب قوسين من تسلمها. كنا نعرف نحن الوافدين الجدد الى "النهار" في الحمرا، ان رياح التغيير بدأت تهب، وتحاول ان تخلق روحاً تنافسية وتغييرية وشبابية، في الجريدة التي كانت تشارف حينها عامها الستين.
من مكتبه في الاشرفية، كان جبران يرسم مخططه، وبدأ يتعرف تدريجاً على اقسام الجريدة، ومحرريها ومسؤوليها. وقبل تسلمه مهماته رسمياً في عام 2000، صار متورطاً في اللعبة الداخلية للجريدة، وملما بكل تفاصيلها، ارقاماً واخباراً وإدارة. صارت الجريدة حلمه اليومي، الذي نقله الى أرض الواقع في الاول من كانون الاول عام 1999. في تلك القاعة في الطبقة التاسعة من مبنى "النهار" في الحمرا. وقف غسان تويني، في الثلاثين من تشرين الثاني عام 1999 يسلم امانة "النهار" الى جبران، الواقفة قربه ابنته نايله، وحضر الوزيران ميشال اده ومروان حماده، ورئيس التحرير أنسي الحاج، الذي كان تسلّم رسمياً رئاسة التحرير في 18 آذار 1995، ومدير التحرير ادمون صعب، ورؤساء اقسام وصحافيون. كان انسي الحاج رافق جبران في " النهار العربي والدولي" وظل استاذه ورفيقه، في الصحيفة التي رسما خطوطها العريضة بدءاً من حفل التسليم والتسلم، الى أن غادرها قبل الانتقال الى وسط بيروت.
كانت "النهار" تعيش يومها عالمين منفصلين، واحد لا يزال يتماهى مع عراقة الجريدة وتاريخها وتقليدها، وآخر يريد دفع الامور قدماً، فيضخ دماً جديداً، ويوظف صحافيين جدداً، ويدخل ذلك المخلوق الغريب الى المبنى التاريخي، اي الكومبيوتر.
كان جبران ينقل "النهار" الى عصر التكنولوجيا المتطورة، بدءاً من عام 1992، حين ادخل الكومبيوتر الى الجريدة، وتدريجاً صار للجريدة 16 كومبيوتراً من نوع "ماكينتوش". كانت النقلة النوعية صغيرة، لكنها ثابتة. وفي عام 2000 صار لكل صحافي جهازه الشخصي. لكن الدورة الالكترونية، لم تصبح متكاملة الا بعد الانتقال الى مبنى البرج.
كان جبران مستعجلاً كي تصبح جريدته، الأولى التي تواكب التطور العلمي والتقني، كان يريد لها ان تنتقل الى عوالم اخرى، اذا اطلق موقع "النهار" عبر شبكة الانترنت في 1 كانون الثاني عام 1996. بعد تجربة اطلقها وديع تويني في تموز 1995. في تلك اللحظة كان جبران لا يزال في الاشرفية، بدا فخوراً وهو يرى الصفحة الاولى لـ "النهار" على شاشة الكومبيوتر تنتقل الى كل ارجاء العالم. برقت عيناه في تلك اللحظة، وشعر بسعادة الشغوف بلعب الكومبيوتر والالعاب الالكترونية. هو الذي "يقلب الدنيا رأساً على عقب" اذا تعطل هاتفه الخليوي او كومبيوتره الخاص، او مفكرته الالكترونية.
وفي عام 2000، أصرّ على ترك بصمته الخاصة كرئيس مجلس ادارة "النهار" ومديرها العام بإطلاق فكرة الصورة الملونة على الصفحة الاولى، التي اصبحت عرفاً مكرساً في الصحف اللبنانية.


من الحمرا الى وسط بيروت
كانت الحمرا بالنسبة الى جبران ذلك العالم الذي يمتزج فيه التاريخ بالمستقبل، وهو يحب المستقبل بكل تطوره وتقلباته وحداثته، من دون ان يتنكر للماضي، شرط ان يكون متألقاً، نظيفاً، راقياً. في الطبقة التاسعة من مبنى الحمرا، كانت العلاقة مع المحررين والصحافيين والفنيين، علاقة عمودية، موزعة من الطبقة التاسعة الى ما تحت الارض، حيث تقبع المطابع. وبين الطبقات الثانية والثالثة والرابعة والسادسة والتاسعة، كانت العلاقة تحمل الكثير من "الطلعات والنزلات"، حيث تتحرك المواد الاخبارية صعوداً ونزولاً، وتضيع بين المصعدين، والادراج، والورق الاصفر، والكومبيوتر.
لم يكن المبنى يستوعب تلك الحركة الجديدة وتلك الاحلام المتأرجحة بين الرغبة في التحديث وبين الحفاظ على الماضي العريق. غلب اتجاه التحديث، وبدأت خطط الانتقال الى وسط بيروت ترسم جدياً.
كان الانتقال فكرة غسان تويني، الذي أراد العودة الى ساحة البرج، بعدما غادرت "النهار" وسط بيروت الى الحمرا، قبل اربعين عاماً. لكن الفكرة صارت هاجس جبران وخبزه اليومي. كتب جبران الفكرة بحذافيرها واشرف على تحولها عملاً هندسياً وصحافياً متكاملاً. واول بند كتبه فيها هو جعل العلاقة بينه وبين الصحافيين علاقة افقية. واول قرار اتخذه ان يجتمع الصحافيون بكل اقسامهم التحريرية في طبقة واحدة، وان يكون هو معهم، في الطبقة نفسها. فكرته الخاصة، منبثقة من ان هذا النموذج مطبق في احدث الصحف العالمية واكثرها تطوراً، لأن المساحة المنفتحة تسمح بتفاعل اكبر بين الصحافيين، وتقرب المسافات في ما بينهم، وتعمل على زيادة الانتاجية والتنافس لخدمة الخبر.
من الالف الى الياء شارك جبران في تفاصيل مقر الصحيفة وعروقها الصغيرة. مع العلم ان "النهار" لا تملك المبنى بكامله، بل ان غسان وجبران تويني مساهمان في الشركة العقارية الصحافية التي شيدت المبنى. تسلم جبران ثلاث طبقات من المبنى "على العضم" وبدأت ورشة الاعمار الحقيقية، باشراف مكتب الهندسة، وبتدخله المباشر في كل شاردة وواردة.
حرص "الاستاذ" على ان يكون مبنى البرج عصرياً، وان يكون مقر "النهار" متلائماً مع احدث التقنيات المتطورة، التي تلف المقر بكامله، من المدخل الى غرفة الاجتماعات، من الابواب الى الطاولات والى الاجهزة الحديثة. وكل ما كرهه في المبنى القديم، حاول ان يفعل عكسه في الوسط التجاري. اشرف على الديكور، وفرض، خصوصاً في الطبقة السادسة، ايقاعه الخاص. استحدث في المساحة المفتوحة، افكاراً وهندسة وديكوراً داخلياً، ووزع رؤساء الاقسام، والصحافيين واشرف على تخصيص المكاتب لهم باسمائهم واحداً واحداً. كان حين يدخل يعرف أين ينظر، وأين سيجد هذه الصحافية او ذلك المحرر. ولأنه كان يتطلع الى "نهار" عصري، أصرّ على ان تكون كل التقنيات الحديثة متوافرة، كي تصبح جاهزة لاستقبال اي تطور تقني في كل ما يتعلق بالتكنولوجيا المعتمدة. والمجال مفتوح حالياً في "النهار" لاستقبال اي تطور جديد قد يطرأ، في السنوات العشر المقبلة، من دون ان يستدعي ذلك اي تفكيك لمعدات وللمنشأت الموجودة.
كان جبران مزهواً بما ينجز، يصر على تنظيم زيارات استكشاف للمبنى، يستدعينا واحداً واحداً، ويسأل "ألم تنزلوا بعد الى البرج؟"، ويصطحبنا في جولة استكشافية، شملت ايضاً سياسيين ورجال دين وصحافيين، كان يتنقل معهم في ارجاء المبنى وفي الاقسام وبين العواميد وبين حركة العمال التي لا تهدأ. اصرّ على انهاء المبنى في سرعة قياسية، وهذا ما حصل. لكن اقسى ما تركه، هو ان ضحكته يوم كان المبنى أعمدة باطونية، غابت يوم صار المبنى برجاً متكاملاً. لم يهنأ جبران بحلمه، فتركه بعد اكثر من سنة بقليل.


الانتقال
قبل الانتقال الفعلي الى البرج، اقام جبران الحفلة الاولى، بين أعمدة الباطون، حيث بارك المبنى متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده وسط حشد صحافي وسياسي كبير.
وعند الانتقال الرسمي، كانت حفلة تكريس المبنى الجديد، وصارت "النهار" رسمياً في وسط العاصمة في 21 آب عام 2004.
في ذلك اليوم، اكتملت فرحة العريس بعروسه التي احب. كان يوم السبت، اختاره جبران قبل ثلاثة ايام، في اجتماع لمختلف المسؤولين عن المطابع والتكنولوجيا والتحرير. كانت الامور بدأت تنتظم في المبنى، الا ان احداً لم يكن يريد أن يتسرّع في اتخاذ قرار ترك الحمرا. كانت الخشية من اي خطوة ناقصة، تطغى على الجميع. ولا سيما ان الشبكة الحديثة للمعلوماتية، ومطبخ الاخبار ستكون في الوسط، فيما المطابع ستظل في الحمرا. ولأن احتمال الخطأ التقني وارد، ظلت الأيدي على القلوب. وقف جبران في ذلك الاجتماع حاسماً الموقف قائلاً، الانتقال سيكون يوم السبت، لأن ثقل الجريدة الاخباري يكون عادة اقل من الايام العادية.
بدأت حملة الانتقال الى وسط بيروت، من خلال صناديق كرتونية، وزعت على مكاتبنا في الحمرا، نوضب فيها اوراقنا التي سبقتنا الى البرج. يومها كان جبران فرحاً كطفل صغير تملؤه السعادة، بل الغبطة المتناهية. كان يتنقل في الطبقة السادسة بين مكتبه ومكاتب الصحافيين مستطلعاً احوالهم.
في الايام الاولى، كان حلم جبران يتحقق، عادت "النهار" الى وسط بيروت شامخة، حديثة عصرية، كما يحبها، كان مزهواً بما انجز، وبما حققته له المساحة الجديدة من تواصل مع صحافيين احبهم، أصدقاء وزملاء، يتبادل معهم النكات والاخبار الخاصة، والتحاليل السياسية والمعلومات. لكن الهزة الاولى مع محاولة اغتيال مروان حماده، وصمت مسار "النهار" في البرج، وكرت سبحة المآسي. كانت الاحداث تتوالى، كأن عينا اصابت المبنى، وكأن الارواح الشريرة الطالعة من جوف الارض، بدأت تحوم حول المبنى.


خلية سياسية وصحافية
شعر جبران بما يخبئه له القدر، فعانده. حوّل "النهار" خلية سياسية وصحافية، مع بدء ثورة الارز. لا تكتمل حكاية جبران مع "النهار" من دون هذا الفصل الاستثنائي. صارت الجريدة مقراً ومحجة. تختلط فيها الاصوات والتباينات، تكتب فيها البيانات وتعلو فيها اصوات النقاشات الحادة. لكن ثمة مسلمة اساسية، كان يحرص عليها. فقد أصبحت الجريدة محور الاهتمام العالمي والغربي والعربي، يقصدها الصحافيون والسياسيون، وتسمع فيها السجالات السياسية، لكن ثمة اسرارا، وان عرفها الصحافيون فلا يجوز ان تنشر. ورغم ان الجريدة واكبت "ثورة الارز"، الا ان ثمة خفايا واخباراً، لم يكن من المسموح كشفها. أراد، وان بصعوبة، ان يفصل الصحافة عن السياسة. نجح احياناً وفشل في اخرى. لكن الثابتة الوحيدة، كانت اصراره على حفظ الاسرار وعدم التفريط بها على صفحات الجريدة. هكذا كان في "قرنة شهوان"، وفي "ثورة الارز"، وفي توليه النيابة.
أراد تحييد الجريدة عن الدخول في لعبة الحساسيات السياسية، فظلت تعبر عن وجهات نظر كثيرة ومتعددة. لكن ما كتب قد كتب، وحافظ على صداقته مع اخصامه السياسيين، وظل يحضّ أي صحافي "معارض" في الجريدة على النقاش والتواصل مع الجميع. لم يفرض يوماً رأياً او سياسة على صحافيي "النهار" وهذا ما يشهده له جميعاً. انتماؤه السياسي لا لبس فيه، لكن للصحافيين كامل حريتهم في التواصل والتعبير.
كان اسلوب حياة لم يستسغه بعض اهل المهنة في "النهار" وخارجها. وكان عاطفة متفجرة، تركت اثرها في ممارسته الصحافة، وفي تعامله معنا كصحافيين، يحب البعض ولا "يستهضم" البعض الآخر. لكنه ظل متعالياً عن الحساسيات، يجادلنا، "يعصّب" يقفل الخط الهاتفي مع أحدنا، ليعود ويتصل بعد دقيقة واحدة، وكأن شيئاً لم يكن. اذا اتصلت به، ولم يرد، يعاود الاتصال ولو في العاشرة ليلاً. التواصل الانساني، معبره الى العلاقة مع الصحافيين، لهذا أحببناه. ظلّ يتواصل مع الجميع، من باريس التي انتقل اليها قبل اشهر من اغتياله. النكتة، الابتسامة، الدردشة، كلها مفاتيح لعبته السرية. مع كل صدور عدد جديد، كنا ننتظر تعليقاً منه او اتصالاً، يعترض او يرحب، او يسأل. واحياناً "يطنش". تعامل مع الجريدة التي كان يأتي اليها في الصباح الباكر مهما كانت الظروف، بحب غريب. يسبق الجميع ويلاحق الجميع. قبل انتقال الجريدة رسمياً الى وسط بيروت، نقل مكتبه اليها وصار يداوم فيها طوال ساعات متواصلة. حلمه الذي صار هاجسه، اراد ان يشبع منه حتى الثمالة. لكنه لم يهنأ به، ولم نهنأ نحن أيضاً به. صار للمهنة طعم آخر، وصارت صورته بيننا، رمزاً لغائب في باريس، لا نزال نبكيه كلما كتبنا عنه، كما فعل معظم الذي كتبوا في هذه الصفحات.
بين جبران و"النهار" حكاية عمر قصير، "حلم ليلة صيف" انتهى باكراً، وبيننا وبينه سؤال يختصر حكايتنا معه ومع "النهار": لماذا فعلتَ بنا ذلك؟.


متى يملّ لنرتاح؟


بعد تسلمه رئاسة مجلس ادارة "النهار" في نهاية كانون الأول 1999، اتجه جبران تويني الى اكتشاف "صناعة" الجريدة بأدق تفاصيلها، ولاحظ تأخيراً في الطباعة، فداوم ليلياً في قسمي الصف والتركيب، ثم في المطبعة، حتى صدور الجريدة... يومياً طوال سبعة أشهر ونيّف. وكان يحضّ المحررين والفنيين والتقنيين على بذل السرعة القصوى وتوخي الدقة. ومرة، واثر تأخير غير مبرر وفق حساباته، طلب الغاء احدى الصفحات، والاستعاض عنها بإعلان. ولم تنفع التدخلات، بتوجيه انذار أخير وعدم شطب الصفحة. وكان الغيث من القدر بعطل طارئ في المطبعة، مما مكّن أصحاب الوساطة من اعادة الصفحة الملغاة! وكان الجميع يسألون: متى يملّ لنرتاح؟ وبعد أحداث فارق في توقيت الطبع، ارتاح الجميع، وصار "الاستاذ" يتابع العمل التقني بـ"الكبسات" عبر الهاتف.


لو كان نازل لما اتصلت


لم يكن يتردد في الاتصال بمسؤولي الأقسام للسؤال عن خبر لم ينشر، وقد تلقى في شأنه مراجعات في اليوم التالي. وصودف مرة ان كرر معاتبة من اتهمه بعدم الاهتمام بخبر يعود لاحدى الجمعيات. وكان الرد: "نزل الخبر يا استاذ وفي رأس الصفحة على ثلاثة اعمدة مع صورة". وبادر "الاستاذ" في الرد سريعاً: "لو كان نازل، ما كانوا حكيوني، وما كنت انا اتصلت".


منظر "الكلينكس" يستفزه


"موسوس نضافة وترتيب"... هكذا كان جبران تويني. لا يطيق شيئاً في غير مكانه. ولا يطيق الفوضى على مكتبه او حتى على مكتب غيره. كان عندما يمر في قاعة التحرير، في المبنى الجديد لـ"النهار"، ينظر الى المكاتب ويسأل اصحابها: "لماذا تكدسين صحفك الصفراء هنا؟ خذيها الى البيت أو ارمها فوراً!"، "لا اريد ان أرى علب الكلينكس على الطاولات، ضعوها في الجوارير"...
المبنى الجديد لـ"النهار"، الذي يشبهه بأناقته، جسّد حلماً من احلامه في عصرنة الصحيفة وتطويرها، لذا كان دائماً يحب ان يراه مرتباً و"مصفصفاً" وtiré à épingles4 تماماً كما كان هو.


مبسوطين بورق السندويش؟


حضر "الاستاذ" على غفلة الى قاعة التحرير وفاجأ بعض الموظفين، ومن بينهم ابنته نايلة، يكتبون مقالاتهم او الأخبار اليومية مستخدمين القلم والورق الأسمر، الذي يستخدمه كل الصحافيين في جميع الصحف). "عيب! عن جد عيب! اذا انتو الشباب بعد ما تطبعوا على الكومبيوتر، شو تركتوا للكبار؟ مبسوطين بورق السندويش؟". وبعد هذه "البهدلة المستحقة" أكبّ صحافيو "النهار" الذين تأخروا في ركب قطار التكنولوجيا على تدريب أناملهم في كتابة مقالاتهم على الكومبيوتر...


هوس التكنولوجيا


هوس جبران تويني بالتكنولوجيا لا تحده حدود. كان يحب ان يقتني أحد هاتف خليوي واحدث كومبيوتر واحدث كاميرا.. وكان كلما حط في مطار يطلق العنان لنفسه للبحث عن أجهزة تفوق اجهزته بحداثتها وقوتها.
وكانت "المصيبة" تقع على راس وديع "معاونه" في شؤون التكنولوجيا كلما اشترى جبران جهازاً جديداً، لأنه يريده ان يقرأ كتيب الارشادات السميك جداً في دقيقتين ويجعله جاهزاً للاستعمال في عشر دقائق!


Hiyam.kossayfi@annahar.com.lb