مشاهد من الجمّيزة وتاريخها الذي لا يعرف نهاية!

لم يَرحَل التاريخ عن الجمّيزة مُستأذناً، بل حافَظ َعلى طيفه الذي يطل أحياناً بين المباني القديمة التي "تفشي" بعضاً من أسرارها للحداثة "المُندفعة" نحو هذه المنطقة (التي عاشت ماضياً طقوس القرية الصغيرة)، بجرأة يعتبرها البعض مُقلقة بعض الشيء.


وإذا كان لكلّ منّا حكايته التي يعتبرها "جديرة بالسرد"، فإن للجمّيزة نوادرها الصغيرة التي "تلتحم" لتروي تاريخاً عريقاً يُحدّد مجرى حياة ربما كُتبت لها بداية ولكنها لن تنتهي وإن كانت حالات الزمان عليها شتّى.
هيا بنا نقوم بنُزهة طويلة في شوارعها التي تتفرّق منها زواريب فرعيّة "تنساب" منها قصص الذين عاشوا في هذه المنطقة يوميّاتهم حتى أمسى لكل شارع وزاروب حكايته الخاصة التي تستحق أن تُروى.
في الطريق ربما صادفنا التاريخ الذي لم يملّ يوماً من الغوص في رواق الذكريات. في "جُعبته" بعض "مشاهد" من "قصّة الجمّيزة"، لن يرويها كاملةً خوفاً من "سلبها" ذاك الغموض الذي ترتديه ثوبها الواقي.



البيت "العتيق"
يُرافقنا في نُزهتنا المُشوّقة هذه مدير جمعية إنماء الجميزة والعضو السابق فيها، جورج بوخليل، وفي الشقّ الأول من النزهة، إبن الجمّيزة، سامي سعيد. معاً سنقرأ صفحات قليلة من كتابها الذي لن تُكتب يوماً صفحته الأخيرة. منزل سامي "عتيق" ويقع بالقرب من الدرج الشهير الذي نعرفه بدرج الجميزة. يروي سامي انه داخل المنزل القديم " في بير ميّ. نعم في بالبيت بير. خلقنا هون وفي ما يتعلّق بالمحال التجاريّة، نعرف كل من يعمل فيها يعني واحد واحد. كنت سابقاً أملك مطبعة للورق وكانت قائمة على الدرج. الجمّيزة ماضياً كانت أجمل من اليوم. تطوّرت في حاضرها وفقاً لأوضاع البلد، ولكن الماضي أجمل. بيكفّيني البيوت القديمة الّلي موجودة فيها".
يُعلّق جورج ان الشارع "هو الوحيد الذي ما زال يحتفظ بجزء من التراث. الجمّيزة ليست منطقة عقاريّة، الجمّيزة مزيج من مناطق عدة! هي مزيج من 4 مناطق عقارية تُكوّن الجمّيزة كاملةً: من منطقة المرفأ، الصيفي، الرميل، والمدور. هذه حدودها. وحدودها وليدة الطبيعة".
الأكيد ان كل هذه المباني الحديثة الطلّة لم تكن موجودة في الجمّيزة التي يُحكى عن طقوسها القرويّة الكثير. كان المبنى الواحد مؤلّفاً من طابق أو 2. يُعلّقان: " وعلى سبيل المثال، فان المبنى الكبير الذي يُطلق عليه اليوم إسم- هرمس- كان ماضياً كاراج البرمكي، وسيلة نقل الركّاب، يعني البوسطات، ونعني بكاراج الGare(المحطة)".
الجمّيزة كانت منطقة حرفيّة، وهنا كانت تُصنع، "جران الكبّة، العرق، الصابون. هنا أقدم معامل لصنع العرق في لبنان". وكانت هذه المنطقة أيضاً "تحتضن" مطعم "أبو جورج" الشهير، وكان بعدها مطعم "Le Chef" الذي فَتَح أبوابه في آواخر ستينات القرن الماضي. على قول جورج، "وكيف ما برمتي كنتي بتلاقي فخّار. كل بناية بيحفروها اليوم عم بلاقوا آثار!".
كانت المنطقة أيضاً المنزل الكبير الذي أوى العائلات البيروتيّة القديمة، وكان بعد السنوات الأولى، ما يُعرف اليوم بالخليط، "من حرب السنتين صار في خليط، وإجت عائلات غريبة".



أمكنة في الذاكرة
كما كانت المدارس "تعجّ" في الجمّيزة، "السانت فامي، الفرير، التلات قمار، ومدرسة الأوروغواي الرسميّة. وأول مسرح في الشرق، مسرح مارون نقّاش، كان بالمقربة من هنا. وهنا أيضاً مَسبح ST.Andre، إلى نادي الراسينغ والمقاهي على مدّ النظر. كما ان النادي الأولمبي، أول نادي بحري في لبنان كان مقرّه في الجمّيزة. وأيضاً مقهى العربانيّة-قهوة القباضايات " ولا ننسى "سكّة الترامواي" وخطّ الجمّيزة-الدورة. يؤكّد جورج انه "تحت الزفت تظهر علامات سكّة الترامواي".
ملامح التغيير الفعليّة التي بدّلت "ثوب الجمّيزة" القديم، كانت بعد العام 2005، بعد اقفال وسط المدينة، وتشييد الخيم. راح كُثر ينتقلون إلى الجمّيزة وصولاً إلى مار مخايل، وتغيّرت العادات وتقاليد السكّان.
ولكن، على "درج مار نقولا"، ما زال الناس يتعاملون أحدهم مع الآخر على أنهم، "ولاد الحيّ"، و"بيعرفوا بعضن كلّن". يُحكى ان جمال باشا سكن قصر ليندا سرسق وكان السكّان يصعدون الدرج ليُراقبوا تحرّكاته في الحرب العالميّة الأولى.
يروي سمير: "قبل العام 1975، كانت تاخد معنا ساعة الا ربع من الجميزة لساحة البرج سيراً على الأقدام على إعتبار ان الكل أصدقاء ويعرف أحدنا الآخر، ولا بدّ إذاً من إلقاء التحيّة".


 


وزن سياسي و"قبضايات"
كان للجمّيزة "وزنها" السياسي، التجاري، الحرفي، إلى المدارس. وفيها حتى اليوم عشرات فنانين إختاروها منزلهم، "رفيق حبيقة، رحمه الله، كان يجلس على سطح منزله القائم هنا، ليؤلّف الموسيقى ويعزفها. ميشلين خليفة، جوليا قصّار، غسّان اصطفان، جورجينا رزق(أهلها)، ادمون الزعني، كلهم عاشوا هنا".
في الجمّيزة إشتهر "القبضايات"، وماضياً على قول جورج، عندما كان يُطلق على أحدهم لقب "القبضاي"، كان ذلك لا يعني مُطلقاً الرجل الأزعر، وكان القبضايات يجلسون في –قهوة القزاز- المعروفة سابقاً بقهوة الغزّار(وهو نوع من القصب الرفيع). قبضايات الجمّيزة كانوا يتنافسون مع قبضيات البسطا، في ما يتعلّق بالمرجلة والشهامة والكرامة، وعزة النفس، والصدق. كما كانوا يهتمّون بالكبار في السن ويُدافعون عن الضعفاء. ومش بالزعرنة! والد ميّ شدياق كان على سبيل المثال من قبضايات الجمّيزة".


أحذية نيويورك والمكتبة العلمية


كنّا نجد في هذه "القرية" "منجّدين ع مدّ العين والنظر، ويا كنتي تشمّي روائح الصابون، أو الزيت، والفحم. ولا ننسى أحذية نيويورك وهو محل مُخصّص للأحذية، وكانت طقوسه تُشبه الطقوس التي يتوسّل بها الحلاق، فيجلس الرجال لمسح أحذيتهم بأناقة. كما ان أهم منجّم-أندروماكس، كان إبن الجمّيزة، وكذلك سامي خيّاط، ولويس أبو شرف". أمّا المخفر فكان مؤلّفاً من غرفة واحدة نصعد إليها "بكمّ درجة". أمّا فكتور عوّاد الذي عُرف بالسفّاح فكان بيّاع فحم في الجمّيزة، وهو السفّاح الذي إستحق أن يُعدم!".
النزهة مُستمرة، وهنا في هذه الزاوية، يشرح جورج: "كانت مكتبة علميّة واليوم صارت حانة. نادي الراسينغ كان هنا. وهذه الحانة كانت سابقاً مخمراً للموز! مطبعة الرعيدي كانت قائمة هنا وبقيت في الجمّيزة 40 عاماً. هنا منزل فردينان داغر، وعمّه كان رئيس بلدية بيروت الشرقية كما كانت تُسمّى ماضياً. هنا كان كاراج البرمكي، ومنذ أيام قليلة فقط أزيلت اللافتة التي كُتب عليها الإسم التاريخي للكاراج. المحال التجاريّة تُشبه في هندستها الكهوف، فيها عُمق وكلّها مُسيّجة بأسلوب قديم في ما يتعلّق بالقناطر وطلّتها الأشبه بقبو".



ايفون سرسق و"جبنة العكّاوي"
الجمّيزة كانت كلّها، تقريباً، مؤلّفة من آبار للمياه، "كل ما مشيتي بئر مي!". وهنا على درج مار نقولا نعيش "حياة الريف بنصّ المدينة!". أمّا معمل الشوكولا هنا، فهو ذائع الصيت وهو يصنع الشوكولا اللذيذة للقصر الجمهوري منذ أيام بشارة الخوري. وشارع سعد كانفي الماضي محطة للركّاب. الترامواي كان يقف هنا في هذه النقطة، امّا الأملاك هنا فهي للّيدي كوكران المعروفة بإيفون سرسق. وأناستازيا داغر الرائدة من روّاد النهضة في مصر في الفن والثقافة والأدب وهي التي أطلقت السينما المصريّة فمنزلها هنا، وها قد رمّم حفيدها المنزل. وفي الجمّيزة أيضاً كانت المدرسة الأولى المُخصصة لدراسة اللّغات. أمّا "طلعة العكّاوي" فهي معروفة بهذا الإسم تيمناً ببائع "جبنة العكّاوي" المشهور بجبنته اللذيذة!


 



خط تماس


ها قد وصلنا في نزهتنا الطويلة هذه إلى مكتب رئيس إنماء الجمّيزة، سمير داغر، فلنجلس معه ومع أنطوان عبسي الذي كان مختاراً للجمّيزة طوال 22 سنة، وهو إبن المنطقة. يُعلّق المختار ضاحكاً، "ما في شي إسمو جمّيزة. هي مؤلفة من مناطق عدة". يروي، "كانت المحال التجاريّة فيها بسيطة. وكان القطار يقسّمها إلى أجزاء. كما ان في الجمّيزة كانوا بيّاعين عرق! وقهوة الجمّيزة كان فيها القبضايات. ماضياً كان للجمّيزة رونقها المُغاير عمّا آلت إليه اليوم". السكّان كانوا جميعاً يعرف أحدهم الآخر، "وعندما يموت أحدهم لا نُشغل الراديو ولا ندقّ الكبّة. ممنوع! حرام! بيسمعوا الجيران!". وكان "البور على سويّة بولفار شارل الحلو، كان بحر هونيك. بيتنا من تحت منّو يمرق القطار. سميرة توفيق كان منزلها هون. كانت الجمّيزة عائلة واحدة كبيرة!".
يصل المحامي جوزف كلم الذي يعشق التاريخ ويغور في حناياه. عن الناحية الإجتماعيّة يروي، "كان الأهالي في الجميزة وجوارها مثالاً للمواطن اللبناني المُلتزم بالقوانين والأنظمة النافذة وبالعادات اللبنانية في مُجتمع مُتماسك، حيث كان أبناء الجبل ينزلون إلى المدينة للتبضّع ومن ثم للسكن من أجل تعليم أولادهم، ، بصورة خاصة، وكبرت المدينة على هذا النحو. وكانت تُعرف الجمّيزة بمواطنيتها وبرجالها الأقوياء الأشداء وكانوا يُعرفون بقبضايات الجمّيزة، "حاميين الجمّيزة". وكان مقهى الجمّيزة مرتع القبضايات وشاطئ الجمّيزة جزءاً من مرفأ بيروت وموئلاً لصيادي السمك". وفي الحرب "دفعت الجمّيزة غالياً ثمن مكانها الجغرافي، فبقيت خطّ تماس بين –الشرقيّة والغربيّة-ومنطقة إشتباكات بين كل أطراف النزاع منذ حرب السنتين وحتى عودة الهدوء إلى لبنان".
علامات التعب ظَهرت على التاريخ بطيفه الآتي من الماضي. مُقتطفات صغيرة من قصّة لن تعرف يوماً كيف تكون النهايات، إذ ستبقى دائماً مُنهمكة في سرد مشاهد تليها أخرى "مُزخرفة" بوشاح الماضي الأنيق وإن كانت تعيش حاضرها المحتوم.


(الصور عن صفحة "جمعية تنمية الجميزة" على فايسبوك، ومدونتي Thisisbeirut وbyserene)


Hanadi.dairi@annahar.com.lb