إن تعاطى الفنان السياسة

ريمون عبود

من حق أي مواطن أن يعبّر عن رأيه السياسي، شرط أن لا يثير النعرات الطائفية، ولا يمس أمن البلد، ولا يتطاول على المقامات والمراجع السياسية والروحية، بابتذال ينم عن حقد وكراهية، كون الفنان فرد من هذا الشعب، طبيعي أن يكون له خيار سياسي، يعكس معاناة المواطن وهمومه، المستغرب ان ينزلق الى زواريب السياسة الضيفة، ويأخذ المواقف المتشنجة والاستفزازية التي تنعكس على جمهوره وتشوّه صورته، بدأت الاشكالية مع كبير الشعراء سعيد عقل خلال حرب السنتين باطلاقه شعارات عنصرية: "على كل لبناني ان يقتل فلسطيني". شعارات لا تليق بشاعر يحظى بتقدير واجلال، وأتبعها بمواقف أشد خطورة زمن الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، من تبجيل وتعظيم... تتكرر المسألة، ولكن بشكل مغاير مع الفنان العبقري زياد الرحباني، عرفناه مبدعا ومجلّيا في الموسيقى والمسرح، وبأسلوب ساخر، تابعناه منذ البداية مع مسرحية "سهرية"، كنا وما زلنا من المعجبين، نردد مسرحياته التي تنبثق من واقع المجتمع وتستشرف المستقبل، بعكس نمط "الاخوين رحباني"، الذي يرتكز على المجد والعظمة والخيال. ظاهرة ملفتة، استقطب جمهورا واسعا على امتداد الوطن، يتحدى المخاطر ويقطع المعابر لمشاهدة مسرحياته، وينتظر بلهفة مسرحية جديدة، نتذكر مسرحيته "شي فاشل"، كيف كانت القاعة تنفرز بشكل يعكس الانقسام الطائفي في البلد بين شرقية وغربية، واذاعة "صوت لبنان" حينها شنّت حملة بقولها من دون أن تسمّي: "ان مسرحية تعرض وتثير النعرات الطائفية ويجب منعها". هذا يندرج ضمن الحملة الكتائبية على زياد.
عتبنا على زياد: تراجع انتاجه الفني، ربما لسبب مادي وايضا لتضاؤل مساحة الحرية، ولانغماسه في السياسة اللبنانية وتفاصيلها التافهة، عبر مقالات تعتمد على التهكم والسخرية، فتحول طرفا يهاجم ولا يرحم مصوّبا في اتجاه فريق محدد، غير عابئ بشيء. لا أحد له حق التدخل في حياته الخاصة: الزوجية والغرامية وغير ذلك، فاللبناني يحب الغوص في الخصوصيات، ولا سيما خصوصيات الفنانين، وتلفيق الاخبار والفضائح. من حقنا ان نناقشه في مواقفه المتطرفة، والتي أوصلته في النهاية الى الاقتناع والتراجع عن خط سياسي ممانع بالشعارات، وعن حلفاء ليسوا بحلفاء، لم يأخذ في الاعتبار التحولات الدولية وسقوط الاتحاد السوفياتي، والتحول نحو الليبيرالية، فتخاله يعيش زمن ستالين، والحزب الشيوعي الذي يفاخر بالانتماء اليه والذي كان يمجد الاتحاد السوفياتي، لم يتخذ موقفا واضحا من الثورة السورية ومن تدخل "حزب الله" في الصراع، كيف يوفّق بين علمانيته ودفاعه عن حزب مذهبي، ويبرر أفعاله وانفلاشه، وتناسى، بل تجاهل ما تعرض له مناضلوه من اغتيال: حسين مروه على سريره، مهدي عامل في طريقه الى الجامعة، اضافة الى ميشال واكد وخليل نعوس... انها "الداعشية" اللبنانية الإلغائية التي بدأت مع بشير الجميّل، بضرب حزب الكتلة الوطنية، لتسيطر المارونية العسكرية وكان زياد من ضحاياها، لتنتقل لاحقا الى التبعية العسكرية في حربها ضد حركة "أمل" واصطياد المناضلين الشيوعيين في شوارع بيروت، بموجب فتاوى، هم يعرفون مصدرها، لتكتمل المسيرة بضرب المقاومة الوطنية ومنعها من متابعة نضالها، واحتكار العمل المقاوم ومذهبته، ليصل الامر الى منع الشيوعيين من الاحتفال لتكريم شهدائهم الذين رووا أرض الجنوب بدمائهم، فيما كانت قرى شيعية ترش الارز على الجيش الاسرائيلي.
تأخر زياد على رغم إلمامه السياسي، في اكتشاف مخطط "حزب الله" وفكره الإلغائي، تمادى في الدفاع والتبرير والزج باسم السيدة "فيروز" في المهاترات السياسية العقيمة، شأنه شأن العديد من القوى المسيحية العلمانية الصادقة في التزامها، والتي كانت عرضة للاضطهاد على يد حزب الكتائب، فانتقلت الى المنطقة الغربية، تجهد لتدافع ولتبرر تجاوزات القوى الوطنية والاسلامية لتقع مجددا حتمية التطرف الاسلامي، فدفعت الثمن مرتين.
زياد أحببناه، نقدر ظرفه، نجلّ صدقه ونحيي عبقريته، ويبقى انتاجه محط تقدير واعجاب ولا سيما حلقاته الاذاعية خلال الحرب مع "جان شمعون": "بعدنا طيبين قول الله"، ونقده اللاذع للاجتياح السوري. نتذكر من نهفاته: "اختلط الحابل بالنابل، ويا أم الخصر المايل قولي لأم الجدايل حافظ غيّر فكرو وجيشو عا جونيه نازل"، ودعوته الى وضع لوحة على صخور نهر الكلب للفاتح "عبد الحليم نبوخذ نصّر". صدقك وحبك للوطن، سيدفعك الى العودة الى الربوع مع ابداع مسرحي جديد لا ككاتب سياسي فاشل في جريدة "الاخبار".