"داعش" يتحوّل شريكاً في المعادلة الداخليّة في ظل غياب رؤية وطنيّة موحّدة للمواجهة!

تقر أوساط سياسية في دوائر القرار والتحليل في قوى 8 و14 آذار على السواء، بأن تنظيمي "داعش" و"النصرة" وما تناسل منهما، نجحت إلى حد بعيد في التسلل إلى عمق الحياة السياسية والامنية في لبنان وفي اللعب بمهارة على تناقضاته وشروخه إلى درجة انها توشك ان تجهز على البقية الباقية من الوحدة والشركة الوطنية وان تبدد آخر ما تبقى من معالم النسيج الوطني المعتل أساساً.


ولا ريب في أن الدوائر عينها من يذهب إلى أبعد من هذا، فيقول ان هذه التنظيمات الارهابية، ومن لف لفها، صارت بشكل أو بآخر شريكة في معادلات اللعبة السياسية اللبنانية وأحد مكوناتها، تضغط على القروح والجروح الطرية والنازفة اصلا وتزيد هشاشة الوضع الداخلي وتعمق انقساماته. وتجلى ذلك أكثر ما يكون مشهد الانقسام والاختلال والضياع الذي اتسم به التعامل الرسمي مع ملف ادارة الازمة منذ ان غزا "داعش" واخواته عرسال وقبض على نقاط الضعف في الاجتماع اللبناني، حتى انه صار بامكان هذا التنظيم اذا ما شاء ان يدفع بالمشهد السياسي اللبناني الى حافة الاحتراب اذا ما بادر الى قتل أو ذبح عنصر آخر من العناصر الامنية التي أسرها ابان غزوته المشهودة لهذه البلدة. البعض يتعامل مع المشهد برمته على اساس انه مهزلة وملهاة تولدت بفعل لحظة انعدام وزن داخلي، وان لبنان ما كان في مقدوره ان يتلافى تداعيات هذا التسونامي الارهابي الامني والسياسي الذي وقع تحت وطأة تأثيره، خصوصا ان ثمة دولا وكيانات اقليمية اكبر وذات امكانات هائلة عجزت عن الصمود والمواجهة واوشكت ان تتداعى وتنكسر. ومع ان هناك من لا يقلل من واقع الحال هذا فإنه يتحدث عن جملة عناوين ومسببات كانت بمثابة الباب الذي فُتح لتدخل منه رياح الارهاب العاتي القادم من أربع رياح الأرض وجعلت بالتالي من لبنان بمثابة اسير لتنظيمات الارهاب المحترفة والتي تملك قدرات عسكرية متطورة، ووضعت نخبته السياسية برمتها في موقع رد الفعل العاجز والمربَك.
ومن أبرز هذه العناوين:
- الاداء المرتبك والمشوه للقيادة السياسية اللبنانية لمعالجة تداعيات معركة عرسال الاولى وامتصاص نتائجها السلبية بالسرعة المطلوبة.
- النهاية الملتبسة والغامضة لهذه المعركة والتي سمحت بشكل أو بآخر للارهابيين الغزاة بالنفاذ من الطوق الذي فرضته وحدات الجيش على البلدة مصطحبين معهم غنيمة الاسرى، خصوصا بعدما سرت في الايام القليلة الماضية معلومات فحواها ان القيادة العسكرية وقعت ضحية فخ سياسي من الجهة التي سارعت الى تنصيب نفسها كوسيط قوامه السماح للمسلحين بالخروج من البلدة مع الاسرى على ان تطلقهم فور وصولهم الى جرود عرسال، وهو ما لم يحصل إذ ان المجموعات المسلحة نكثت بوعدها.
- الخطاب التشنجي والاتهامي الذي صار نجم الساحة السياسية والذي ألقى بثقله على الحدث العرسالي، اذ سعى فريق 14 آذار بكل تلاوينه الى الاستثمار والبناء على هذا الحدث الدراماتيكي ذي الأبعاد الخطيرة من خلال تحمل "حزب الله" مسؤولية ما جرى نتيجة انخراطه في الميدان السوري واعتبار فعل المجموعات الارهابية بمثابة رد فعل ليس إلا. فيما سعى فريق 8 آذار بكل تشعباته الى اعتبار ما حصل بمثابة برهان عملي على ما سبق واطلقه من تحذيرات من مغبة تحوّل عرسال رأس حربة للمسلحين الارهابيين للدخول الى العمق اللبناني والتلاعب به. وهكذا، عوض أن تكون غزوة "داعش" فاتحة وعي جماعي لأخطار ما هو آت، سمح الانقسام الداخلي بولوج الخطر "الداعشي" وصار الحدث مادة تجاذب وتراشق داخلي وتصفية حسابات بمفعول رجعي. وعليه ثمة من ساهم، بوعي او بلا وعي، في تهيئة الارضية اللازمة لنمو وتمدد ما صار الآن في منزلة الكارثة الوطنية، خصوصا بعدما انقسمت كلمة السياسيين والرأي العام الى رؤيتين متعارضتين تماما، الاولى تدعو الى الانصياع للمقايضة التي تنهي قضية الاسرى الضاغطة عبر التخلي عن جهود ضخمة بذلت في السابق وعلى مدى أعوام لمواجهة الارهاب عبر اطلاق محكومين وموقوفين ومتهمين بتنفيذ عمليات ارهابية موصوفة أزهقت أرواحا بريئة في مناطق عدة، وما يترتب على ذلك من تجاوز للقوانين واستخفاف بالانظمة السارية المفعول، والثانية تعارض بشدة هذه المقايضة انطلاقا من انه سيكون لها أثمان وتداعيات سلبية على الاستقرار الوطني حاضرا ومستقبلا. وبمعنى آخر فان لدى أصحاب هذه الرؤية حجة قوية للمضي في مواقفهم المعارضة، وهي أن كل العالم ذاهب انفاذا للقرار الأممي الرقم 2170 لمحاربة الارهاب "الداعشي" ومنازلته عبر جبهة عالمية، في حين ان في لبنان من يرفع شعار اليد الممدودة للارهاب والتفاوض معه والنزول عند شروطه التعجيزية ومطالبه المذلة.
في الاعوام الثلاثة الماضية ثمة في السلطة السياسية من بنى مجدا سياسيا على أساس مسألة أنه حمى لبنان من لهب النيران السورية المتقدة بأقل الاثمان وبالحد الادنى من الخسائر والحروب الصغيرة المضبوطة الايقاع، والآن وبعد الحدث العرسالي، فان السؤال المطروح هو: هل ما زال لمثل هذه المعادلة مكان وحضور؟ واستطرادا، هل ما زال بالامكان الخروج من هذه الورطة من دون تداعيات كبرى تضع البلاد على شفا حفرة من الكارثة، خصوصا ان الارهاب ليس في وارد التخلي عما يعتبره مكاسب قد حققها؟
من يرصد عن كثب طبيعة الأداء الرسمي والحكومي خصوصا في مقاربة هذا الملف الشائك، ينتابه شك في قدرة المؤسسات الرسمية المعنية على ترسيخ استراتيجية وطنية واحدة موحدة للخروج من متاهة الازمة. وثمة في من وجد مصداق ذلك من خلال منطقين سياسيين متعارضين: الاول عبّر عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري في كلمته المتلفزة الاحد الماضي في ذكرى تغييب الامام موسى الصدر، حيث دعا فيها الى التوحد في مواجهة خطر الارهاب المتربص واعتباره مهمة وطنية تقع على عاتق الجميع من دون استثناء، والثاني عبّر عنه الرئيس فؤاد السنيورة عندما آثر الذهاب في كلمة له نحو ما يعزز الانقسام الداخلي عندما ساوى بشكل غير مباشر بين "حزب الله" وبين "داعش" ووضعهما في منزلة واحدة. ويستنتج من هذا التعارض مثلا على ان الامور لا تسير في اتجاه البحث عن قواسم وطنية مشتركة لمواجهة الاخطار الارهابية المتنامية، واستمرار الرهان على أوراق وحسابات أخرى.


ibrahim.bayram@annahar.com.lb