للسبحة أهمية خاصة في الفكر الإسلامي

زياد سامي عيتاني

إرتبطت "السبحة" أو كما تسمى باللغة المحكية "المسبحة" منذ القدم بالشعائر الدينية، وشكلت مظهراً من مظاهر التقوى، عندما أصبح لها دور مهم في الشعائر الدينية، لاسيما التسبيح، أي تعظيم الله الجليل وتنزيهه عزّ وجلّ.


وفي شهر رمضان المبارك شهر المغفرة والتوبة، يكثر إستخدام السبحة من الصائمين الذين يكثرون من التسبيح والاستغفار وذكر الله جلّ جلاله، لأن أجر ذلك مضاعف في الشهر الفضيل. فالصائمون يتلمّسون رضا رب العالمين ومغفرته ورحمته من خلال الرجوع إلى الطاعة والتوبة إلى بارئهم. وأنشد الشاعر في هذا المعنى:
تُبـتْ إليـكَ، فتقبـّل تابَتـي وصمـت ربّـي فتقـبّل صامـتـي


تاريخ السبحة
ومنذ القدم ارتبطت السبحة بالفكر الديني، حيث افادت إحدى الروايات إن راهباً يونانياً يدعى "الابوس دي روبي" كان أول من استعمل السبحة، وفي عام 1880 أطلق بابا روما "ليو الثالث عشر" على شهر تشرين الاول اسم "المسبحة المقدسة"، كما تقول بعض كتب التاريخ إن كهنة الصين والهند كانوا أول من ابتدع السبحة، وقد اتخذت السبحة في عصور ما قبل التاريخ كزينة وتعويذة وتميمة، وفي الآثار الفينيقية ما يشير إلى استعمالها في المقايضة والمعاملات التجارية.
وتُشير الدلائل التاريخية إلى أن ظهور السبحة الدينية لأول مرة كان في الهند. في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، وإستقى المسلمون الفكرة بإحتكاكهم مع الشعوب الهندية من خلال التجارة والفتوحات.
وكما هو معروف، فإن القوافل البرية والبحرية التي إستخدمها التجار المسلمون ساهمت إلى حد كبير في التبادل التجاري والحضاري، حيث إنتقلت السبحات والمواد والأحجار التي تُصنع منها على مدى مئات السنين إلى الجزيرة العربية، حيث كان الملاحون المسلمون ينقلون "العقيق" من غرب آسيا إلى مكة المكرمة ومصر، وحملوا الياقوت والعقيق والزمرد واللؤلو والمرجان إلى الصين، كما نقلوا الأساليب والتقنيات الفنية الإسلامية إلى الدول الإسكندينافية وأفريقيا والهند والصين.
وكلمة (المسبحة) أو (السبحة) اشتقت عموماً من الناحية الدينية أو اللغوية، من كلمة التسبيح – ففي القران الكريم ورد التسبيح لله عز وجل في عدة سور وآيات، وقد أتت كلمة التسبيح بمعاني وأماكن مختلفة في كل سورة وآية ومن أمثلة ذلك: سورة الحديد (الآية الاولى) قال تعالى: (سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم). ومن صور التسبيح، قولك، سبحان الله والحمد لله، كذلك ذكر الأسماء الحسنى لله عز وجل.
وتنقسم السبح إلى أنواع عدة، فمنها ما هو مصنوع من الأشجار ومنها ما هو مصنوع من الأحجار ومنها ما هو مستخرج من البحر. كما تنقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث العدد فإما أن تكون 99 أو 66 أو 33 حبة.
إلا أن السبحة التي تُستخدم للتسبيح والأذكار فهي عادة تكون مصنوعة من أخشاب السنط والزيتون والصندل ونوى التمر، إضافة إلى العود.


السبحة في الإسلام
مع الإشارة إلى أن السبحة لم تكن مستخدمة في صدر الإسلام، حيث قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده"، غير أن بعض الصحابة استعانوا بعد ذلك في تسبيحهم بما يساعدهم على ضبط العدد مثل النوى والحصى والخيوط المعقودة، وفي العصر الأموي ظهرت السبحة وسيلة لتسبيح الله سبحانه وتعالى وأصحبت مع الوقت أحد مظاهر التقوى ووسيلة لتهدئة النفس، ومع توسع الفتوحات الإسلامية وازدياد الثروات برع الصناع في تصميم السبح من الجواهر ولأحجار الكريمة، فحوت خزائن الخلفاء الراشدين والحكام المسلمين أجمل نفائس السبح.
ولعل من أشهر السبحات تلك التي استعملتها زبيدة بنت جعفر المنصور، والتي صنعت من ياقوت رماني على هيئة بندق والتي اشترتها بخمسين ألف دينار. كما كان لدى العديد من الأمراء في العصر الفاطمي سبح نادرة وثمينة.
كذلك فإن السبحة الدينية تتألف من 99 حبة أو خرزة وفقاً لعدد أسماء الله الحسنى، وهي تكون مكونة من "الإمام" أو "المئذنة" أي رأس السبحة، والشاهدان الفاصلان اللذان يختلفان عن باقي الخرزات، الأول منه يكون موضعه بعد الخرزة الثالثة والثلاثين، والثاني بعد الخرزة السادسة والستين، أما نهايتها فهي عبارة عن كتلة على رأس "الإمام" أو "المئذنة" تكون مصنوعة من الفضة أو عقدة من خيطها. وبالعادة يعلق على رأس السبحة شرابة نسيجية أو معدنية.
والشكل الدائري لحبّات السبحة يكتسب أهمية خاصة في الفكر الإسلامي، لأن الدائرة هي الرمز الأساسي لوحدة الكون وكماله، إضافة إلى إكتشاف العلماء أن جميع الأشكال المنتظمة تعتمد على الجسم الكروي.
وربما يكون لهذا المفهوم دور أساسي وعلمي في أهمية السبحة في الثقافة الإسلامية، متى كانت خرزاتها دائرية الشكل.
ويرجح ان الصوفيّين هم أول من صنع السبح على الشكل الذي نراه اليوم لحرصهم على التسبيح بأعداد معينة.


من مناظر التباهي
وفيما بعد أصبحت السبح مظهراً للتباهي والتفاخر، خصوصاً من جانب من يهوى إقتناء الأحجار النفيسة التي تُصنع منها السبح، كما أصبحت جزء من ديكور المنازل، إضافة إلى تقديمها كهدايا ثمينة ونادرة في المناسبات الإجتماعية المختلفة.
وهذا ما حمل صانعوها عبر الزمن إلى إعتماد الأحجار الكريمة في صناعتها، مما جعلها ذات أشكال وألوان مختلفة وأثمان باهظة ومرتفعة.
وعرفت مدينة البندقية بصناعة المسابح من الزجاج الملون، أما الصين فصنعت سبح العاج المنقوشة والمطعمة، فيما انتشرت سبحات الكهرمان الأسود في أوروبا بالإضافة إلى مسابح الفيروز والعقيق والمرجان.
ومن الأحجار الكريمة التي صارت تُصنع منها المسابح: نور الصباح، اليسر المستخرج من شجر من قاع البحر، الكهرمان الأصفر، والأبيض، والمائل للسواد بحمرة، المكوك ذات اللون البني وهو عبارة عن أحجار من قاع البحر، الفيروز الذي يأتي لونه أزرق مخضراً، العاج، المرجان، الكهرمان، الزمرد، اللؤلو، الياقوت، إضافة إلى العديد من الأحجار الكريمة، لكن يبقى العقيق سيد الأحجار الكريمة ويمتاز بأشكال وأنواع كثيرة لكن الأفضل والأغلى ثمناً هو العقيق "الكبدي" الأحمر القاني الصافي، الذي لا تُصنع منه السبح إلا بالطلب لأن سعره يفوق ثمن الذهب.
وأكثر ما يميّز السبحة أن تكون مطعمة بالذهب والفضة والمزخرفة بأسماء الله الحسنى التي غالباً ما تتصاحب مع العاج النادر المأخوذ من أنياب الفيل.


إعلامي وباحث في التراث الشعبي