غسان تويني وعلي غندور... صداقة لن تنتهي

خطف الأضواء وقيل فيه الكثير. ذاك الرجل، الذي جعل القلم يعجز عن النطق بأوصاف تليق بعملاق شامخ أبداً يأبى الانكسار للنوائب. ومع الوقت، بقي عرّاب الكلمة الحرّة، عصيّاً على الخضوع للسلطة والتسلّط والمناصب. فكان وسيبقى، بكل ما تنطق به حروف اسمه التسعة، رمزاً للصمود وقهر الذل والعذاب، وسيبقى اسمه أقوى وأبلغ من أي لقب قد يُمنح أيضاً لسواه، فكل المعاني تسقط أمام عظمة غسان تويني وهيبته! عرفناه صحافيّاً وديبلوماسيّاً، زوجاً وأباً وجدّاً وقريباً ونسيباً، فماذا عن غسان تويني الصديق؟ ومن أفضل من رفيق عمره كي يقصّ علينا حكايته مع الصداقة؟
درس علي غندور (عضو مجلس إدارة "النهار") في الثانوية نفسها التي تخرّج منها غسان تويني "انترناشونال كوليدج IC"، وكان الأول يصغر الثاني بسبع سنوات. لكنهما لم يلتقيا حتى عام 1949 بعد تسلّمه مهماته في "النهار" إثر عودته من جامعة "هارفرد". "عرفته كما عرفه أبناء جيلي وقرأنا كتاباته، وكان يؤمن بعقيدة تحمل مبادئ إصلاحيّة، من أهمها إقامة المجتمع المدني. وكان محاضراً في هذا الموضوع ويدعو دائماً الى فصل الدين عن الدولة حفاظاً عليهما معاً. كان مؤمناً جداً وعلمانيّاً جداً وما جمعني به بدايةً، هو الإيمان بهذه العقيدة وحمل لوائها".


لقاء فصداقة فمسيرة ونضال
التقى الرجلان في وقت التحضير لانتخابات بيروت النيابيّة عام 1949، وكان غندور آنذاك من الشباب الذين يعملون على أن يحقق تويني الفوز فيها، "عندها نشأت صداقتنا، وغسان تويني هذا الكبير الذي مرّ بتراجيديا، كان إنساناً محبّاً ولا يؤمن بأي حقد إطلاقاً وكان يضجّ نبلاً. وكنا نقول مع أصدقائنا، بئس هذا النظام السياسي الطائفي اللبناني الذي يمنع غسان تويني من أن يكون رئيساً للجمهورية في لبنان كونه كان في الحقيقة يحمل المبادئ التي يطمح اليها كل لبناني، ويعمل على إقامة مجتمع مدني مبني على المساواة والمواطنة".
ترافقا في هذه الصداقة الطويلة وفي نضال وطني وعروبي حيّ حتى دخل السجن معه مرة، وفي المرات التي دخل فيها تويني منفرداً كان يزوره يومياً، "كنا ننظم تظاهرات مع الشباب ونطالب بالإفراج عنه. ولمّا جمعنا النضال والفكر، شاء هو أن تكون علاقتنا أكثر عمقاً وأن نكون أكثر قرباً من بعضنا البعض، فكنا نسافر معاً الى باريس ولندن وغيرهما، ونلتقي في نشاطات فكرية في معظم الأحيان، كالمحاضرات والمسرح والموسيقى و"الأوبرا". كذلك، كان يحب المطاعم الروسيّة، فكان يقصد في باريس مطاعم روسيّة ويختار المأكولات التي تتضمّن لحوماً، ويحب الاستماع الى الموسيقى والأغاني الروسيّة، علماً أنه كان يعرف بعض الكلمات الروسيّة أيضاً".
وفي زمن يندر فيه الأصدقاء، كان غسان تويني غنيّاً ومحظوظاً بأصدقائه الكثر، ويُرجع غندور هذا الأمر الى المحبّة لا الى المصالح التي تحكم علاقته بأصدقائه، "صحيح أن الناس يرون فيه مارداً ومتمرّداً لكنه كان مشبعاً بالمحبّة وبنبل قلّ نظيره مما جعله محبوباً. وأهم ما في صداقته أنها بعيدة من المصلحة والتزلّف، ولم يكن يميّز "طوائفيّاً" إن في صداقاته أو في حياته عموماً. كما أن جبران، الذي كنت أعتبره ابناً لي، ورث عن والده حسّ الصداقة الحقيقيّة وبنى لنفسه أصدقاء محبّين".
ويذكر غندور كيف كان صديق عمره يتحدث عن ناديا زوجته، وكم كان يحبّها وكيف تعرف اليها وكيف تزوجا، "كان يتحدث عن والده كيف كان عروبياً وكان يذكره بشيء من الهيبة في دلالة ربما، وكما أعتقد، على العلاقة الرسميّة بينهما إذا صحّ التعبير، علماً انهما قريبان من بعضهما البعض".


مواقفه مع الأصدقاء
وعن مواقفه في الصداقة، يسترجع غندور الأيام التي أمضاها في الأردن، "خلال فترة صداقتنا، شاءت المصادفة أن أذهب الى الأردن وأصبح في وقت لاحق مستشاراً لجلالة الملك الأردني حينها. كان غسان يزورني باستمرار في الأردن كما كان يزور الملك، وإذا ما احتجت أي مساعدة، كان صديقي يترك كل شيء ويلتحق بي في الأردن كي يساعدني، علماً أنني كنت أبادله المعاملة عينها. وذات مرة، كان في نيويورك وأراد أن يزور بيروت ولم يكن ثمة طائرات اليها بسبب إغلاق المطار في زمن الحرب، فاستقل طائرة من نيويورك الى عمّان حيث عملتُ على جعل إحدى طائرات "الجامبو" المتوجهة من عمّان الى نيويورك تهبط في قبرص من أجله وحده كي ينتقل من هناك بحراً الى بيروت. فكان يعطي المحبة لأصدقائه الذين كانوا تلقائياً يبادلونه إيّاها، وكان يمدّ يد المساعدة إلى كل أصدقائه الذين يحتاجون اليه".
طموحه أمبراطورية "النهار"
غسان تويني الذي تعمّق في الفلسفة، كان يبوح لغندور بأنه لا يفهم شيئاً في الأمور الماليّة، "فكنت أسأله كيف استطعت إذاً أن تنجح في إدارة جريدة "النهار" وتجعلها رائدة في لبنان؟" أجابني: "عندما تسلّمت الإدارة في الصحيفة كان أكثر ما يهمني هو القارئ، فكنت دائماً أعمل على أن تكون "النهار" لكل الناس وكنت أوفر لها الترويج. كنت أطلب من باعة الصحف أن ينادوا على "النهار" كي يبيعوها، وإذا ما لاحظت انخفاضاً في مبيعاتها، كنت أسارع للسؤال عن السبب لتحسين النوعية، ثم أعود الى المبيعات وهكذا. كذلك عمل على صناعة الإعلان، وما أريد أن أقوله هنا، هو أنه كان يسرّ لي بعبارة لا تنفكّ أصداؤها عن الرنين في أذني: "غيري أنشأ امبراطوريات من الورق أنا أريد أن أصنع من ورق "النهار" أمبراطورية"، وهذا ما حصل فعلاً. هذا الانسان الصحافي المارد العملاق، كان لديه من الطموح ما لا حدود له كي يحوّل صحيفته أمبراطورية".
ماذا يقول لصديقه في وداعه؟
أكثر من 60 عاماً جمعت غندور بغسان تويني، فكيف يختصرها الشاهد على صداقته؟ "الجميع يرى غسان تويني صحافيّاً عملاقاً بارزاً لبنانياً وعربياً وكانت الناس تحبه والحكّام يهابونه. وكل يوم اثنين، كان الجميع ينتظره ليقرأ افتتاحيته التي "تفشّ خلق الناس"، وفي الوقت عينه يرتجف الحكام من كلماته. وإزاء ذلك، يعتقد الجميع أن غسان تويني كان ثرياً من الناحية المادية، وهذا غير صحيح. فهو لم يكن يمتلك ودائع في المصارف، لكن وديعته كانت وستبقى في قلب كل إنسان لبناني وفي ذاته وضميره، لذا غسان تويني لن يموت.
وأنا كصديق أقول له أنت رحلت عن هذه الدنيا لكنك بقيت مع أصدقائك وخصوصاً معي شخصياً، واسمح لي أن أكون أنانيّاً، لأن ما جمعني بك هو عقيدة الإيمان والمحبة، وسنلتقي دوماً على هذه العقيدة التي لن تموت".