كثيرات مثل غلوريا قليلات مثل باولينا!

من هي التشيليانية باولينا غارثيا؟ في ايّ قمقم كانت مختبئة الى الآن؟


هذا هو السؤال الذي يتبادر الى الذهن، بعد مشاهدة فيلم "غلوريا" لسيباستيان ليليو (39 عاماً)، الذي يتسابق على جائزة "الدبّ الذهبي" في مهرجان برلين السينمائي (7 ــ 17 شباط). هذا الشريط الكوميدي، الذي عُرض في اليوم الرابع للمهرجان، تلقاه النقاد ورواد البرليناليه، كضربة معلم، اذ انه ساهم في رفع مستوى التشكيلة الرسمية. تشكيلة دارت في حلقة من الفراغ في الأيام الاولى. غداة عرض "غلوريا"، كان النقاد المعتمدون في مجلة "سكرين" التي تصدر يومياً خلال المهرجان، قد وضعوا له اعلى النقاط، وهو لا يزال في مقدمة خياراتهم الى هذه اللحظة.


"غلوريا" دفع بإسمين الى النجومية: مخرجه التشيلياني الذي يخوض هنا تجربته خلف الكاميرا للمرة الرابعة. ولكن ايضاً سيدة في اواخر الخمسينات من عمرها اسمها باولينا غارثيا، كانت مجهولة لدى الجمهور غير التشيلياني حتى الأمس القريب. باولينا تحمل الدور المسنود اليها، دور غلوريا، على كتفيها النحيلين، من اولى مشاهد الافتتاحية وحتى اللقطة الأخيرة. فهي في الفيلم سيدة مطلقة، لا تزال تبحث عن الحبّ والحنان في حضن الرجال. في ملهى ليلي في سانتياغو نراها تتبادل النظرات، فتجري دعوتها الى الرقص، وربما الى ابعد من ذلك... وهكذا دواليك، ليلة بعد ليلة. الرجال الذين يهتمون بها هم عموماً في العقد السادس من عمرهم. وعلى الرغم من عمرها المتقدم نسبياً، فلا يزال عند غلوريا تلك الارادة الصلبة في اعتبار الحياة فردوساً ممكناً. الحياة خانت توقعاتها، الا ان هذا لم يجعل منها سيدة كئيبة ومحبطة، تحتاج الى الآخر لتكون. غلوريا مستقلة، متحررة من العقد، غير جميلة ولكن جذابة المظهر، ظريفة، لا تتراجع أمام صعاب الحياة اليومية، تقامر وتدخن الحشيشة وتمارس رياضة القفز في الفراغ، فراغ المصير. لها ابن وابنة تهتم بهما، وهذه الامومة المنبعثة من باطنها، تجعلها تهتم بقدر ابن جارها، الذي يستغل اصغر فرصة للخروج عن طوره. الضربة التي لا تقتل غلوريا تجعلها أكثر قوة واصراراً. اما السعادة بمعناها الشامل والكامل، فهي مشروع مؤجل. وربما مؤجل الى الأبد.


ماذا سيحصل عندما تتعرف غلوريا الى رودولفو (سيرجيو هيرنانديز)، الرجل الستيني الخجول، الذي سيعود مراهقاً يتلو الاشعار، ويخفي علاقته بها أمام أولاده خشية من النميمة؟ هل ستحطم هذه العلاقة الجديدة قلب غلوريا؟


منذ الأحد الماضي، موعد عرض الفيلم، باتت باولينا غارثيا على كل لسان! فهي جسدت بهذا الدور، انموذجاً للمرأة الغربية العصرية، التي لا ترى في الرجل لا خصماً ولا فرضاً ضرورياً، بل عنصراً مكملاً لوجودها وانوثتها. غلوريا "لا عاهرة ولا خاضعة"، اذا صحّ استعارة اسم الجمعية الفرنسية الشهيرة لوصفها. في دورة تمنح المرأة، على مختلف توجهاتها، الحقّ في التعبير عن نفسها بنفسها، تتقدم غلوريا على غيرها في كونها لا تأبه بما يقال عنها. تمشي طريقها فحسب. اللافت في باولينا، تورطها في الدور الى ابعد حدود، وهذا الشيء ظاهرٌ في مشاهد الجنس مع رودولفو، التي يصورها المخرج بلا اي نزعة الى التلصص او اثارة الشفقة. كأي شابة، نكتشف هنا سيدة على مشارف الستين تعيش غرائزها بالكامل، بلا أي شعور بالخجل أو الذنب. سيباستيان ليليو يذكرنا ان الجنس ليس حكراً على الشباب، وان حياة المرأة لا تنتهي بعد انقطاع الطمث وحلول سنّ اليأس.


خلف هذا الدور المركب والصعب، ممثلة مغمورة تقول عنها صفحة IMDB الالكترونية بانها اضطلعت بـ17 دوراً، كلها على الشاشة الصغيرة. غلوريا دورها المهم الأول، وهي لا تفارق الكادر تقريباً. ليليو منحها فرصة العمر لتبرز من خلالها طاقات لم تكن مظنونة الى الآن. في النهاية، غلوريا استعارة لتشيليا التي انبعثت مراراً وتجددت مع التحولات. "كثيرات مثل غلوريا"، قال ليليو في المؤتمر الصحافي. لكن، قليلات هنّ اللواتي بامكانهن دفع شخصية الى مثل هذه الذروة التمثيلية كما فعلت باولينا غارثيا. فهل تنال جائزة افضل تمثيل السبت المقبل، لتتأكد نظرية الفيلم: ثمة حياة أخرى بعد الستين!