الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

نحن وماكرون: "تعا ولا تجي"

ماكرون في لبنان ("النهار").
ماكرون في لبنان ("النهار").
A+ A-

كتب غسان صليبي

 استعير من أغنية لفيروز التي زارها ماكرون في بداية زيارته الثانية، لأصف علاقتنا بالزائر الفرنسي بما يشبه "تعا ولا تجي".

بعد فاجعة انفجار المرفأ مباشرة كنا "على الارض يا حكم" وكنا في أمس الحاجة الى مساعدة، في ظل سلطة مجرمة وحصار دولي. تلقفنا زيارة ماكرون، الذي احسن التصرف مع الناس انسانيا، وبدا مصمما على فتح كوة دولية في جدار الازمة اللبنانية، من خلال الدعوة الى مؤتمر دولي يقدم المساعدات الصحية والغذائية خصيصا.

لكن سرعان ما طفا على السطح موقفان: واحد يدعو ماكرون الى إعادة الانتداب الى لبنان من خلال توقيع عريضة، وواحد يندد بهذا الموقف "التابع"، وبالتدخلات الخارجية في شؤون لبنان الداخلية.

إعتقادي بأن الموقفَين مبالغ فيهما وهما نتيجة لصدمة الانفجار: المُطالب بالانتداب كان كالغريق يصرخ "النجدة" في وجه اول الواصلين، والقادر ربما على إنقاذه من الكمّاشة الاميركية - الايرانية؛ والمحتج على التدخل الخارجي كان كمن يعترض على موقف طائفة معينة مفجوعة تريد العودة الى الماضي، أكثر مما هو حريص على السيادة الوطنية.

تمظهرت هذه الازدواجية خلال الزيارة الثانية، حيث عبّر المطالبون بالانتداب عن امتعاضهم من "تدخل ماكرون" من اجل تعويم السلطة القائمة، فيما التزم الصمت معظم المعترضين على التدخل.

يبدو لي ان الاطراف جميعهم في لبنان بحاجة الى تدخل خارجي، لسببين على الاقل. اولا للخروج من الازمة المالية والمعيشية، وثانيا للخروج من الازمة السياسية. الاطراف الثلاثة المعنييون، ٨ و١٤ آذار ومجموعات الانتفاضة، يتخبطون في عجز شبه تام. وماكرون يستفيد من هذا العجز المعمّم ليفرض مقاربته.

الجميع يريد الدعم الخارجي المالي، لكن الخلاف هو على الثمن السياسي لهذا الدعم. هذا ما يفسر التناقض تجاه الموقف الفرنسي، الذي يريده كل طرف ان ينحو في اتجاه موقفه هوَ.

هذه الازدواجية في المواقف تُرافق عادة كل تدخل خارجي في شؤون دولة ما لاسباب "انسانية".

مسألة التدخل الدولي لاسباب انسانية طُرحت بقوة خلال حرب بيافرا (1967-1970) التي ادت الى مجاعة كبيرة شغلت الاعلام الغربي لكن دون ان تحرك ساكنا لدى الحكومات بحجة احترام عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى. وقد ادى ذلك الى إنشاء منظمات من مثل "أطباء بلا حدود" التي دافعت عن فكرة ان ظروفا إستثنائية يمكنها ان تبرر إعادة النظر في مبدأ سيادة الاوطان. وقد تلت ذلك مناقشة عالمية، قانونية وفلسفية، لمفهوم التدخل الدولي لاسباب انسانية.

الاشكالية القانونية الاساسية تنبع من التضارب بين قانونين عالميين في المرتبة نفسها. من جهة، الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي له قيمة عالمية ويُفترض تطبيقه في كل الدول، وبالتالي من واجب الحكومات الالتزام به، والا كان من المشروع التدخل الخارجي لتطبيقه. من جهة ثانية، هناك مبدأ السيادة الوطنية المعتمد عالميا، الذي يعتبر غير شرعي اي تدخل خارجي بدون موافقة السلطات المحلية.

على المستوى العملي، ومع نهاية الحرب الباردة، تتالت التدخلات الدولية العسكرية، بحجج "إنسانية"، كما جرى في الصومال وهايتي وكوسوفو وصربيا والعراق وافغانستان وغيرها. يفترض القانون الدولي موافقة مسبقة لمجلس الامن الدولي، إلا أن هذه التدخلات كانت تحصل في احيان كثيرة بدون هذه الموافقة، مما يطرح مسألة الخلفيات والابعاد السياسية والاقتصادية لهذه التدخلات التي حصلت تحت العنوان "الانساني".

تدخُّل ماكرون بعد انفجار المرفأ جاء بدافع الإغاثة الصحية والغذائية والسكنية، ومن ثم تحول الى تدخل سياسي.

كان يمكن لتدخله الإغاثي ان يترافق مع فرض عقوبات على افراد السلطة المسؤولة بإهمالها، وبشكل فاضح، عن الانفجار. لكنه فضّل التهديد بالعقوبات إذا لم تلتزم السلطة خريطة الطريق السياسية التي طرحها. بهذا المعنى جاء تدخل ماكرون إغاثة للشعب وغوثا للسلطة، مما أغضب مجموعات الانتفاضة والفريق السياسي المعارض للرئيس عون ولـ"حزب الله".

قد يكون ماكرون عوَّم السلطة لاسباب لها علاقة بالسياسة الخارجية الفرنسية في المنطقة وفي المتوسط، بالغاز في بحرنا، بالعلاقة بإيران وحرصه على المصلحة معها، بعدم قدرته على الاتكال في سياسته على سلطة بديلة، الانتفاضة مثلا، وبأسباب أخرى.

ما يهمني أكثر في هذا النص، هو التوقف عند نظرة ماكرون إلى "ديموقراطيتنا". يقول: "الرئيس عون منتخب من البرلمان والبرلمان منتخب من الشعب، لذا لا استطيع ان ادعو الى رحيل القوى السياسية المنتخبة بسبب تظاهرات". في مكان آخر وفي تبريره لعدم الضغط على "حزب الله"، يوضح ماكرون ان هذا الحزب مكوّن لبناني وهو منتخب من الشعب.

يبدو ماكرون غير مكترث لشروط الديموقراطية التي يطبقها في بلاده والتي تعلمناها من الفرنسيين. فلا يسأل عن توفر حرية الانتخاب بعيدا من تدخل السلاح والتمويل الخارجي والتزوير، او عن مدى توفر الرقابة الفعلية للانتخابات بإستقلالية عن السلطة. بدون ذكر قانون الانتخاب وسن الاقتراع وغيرهما من العوامل المؤثرة بنتيجة الانتخاب.

لكن ماكرون يعترف في المقابل بأنه "اذا كنا لا نريد ان ينحدر لبنان الى نموذج يسود فيه الارهاب على حساب الامور الاخرى، فعلينا تثقيف حزب الله والاطراف الآخرين حول مسؤولياتهم". وكان ماكرون قد قال أيضا ان لـ"حزب الله" جناحا "ارهابيا بالاضافة الى جناحه السياسي". فأية ديموقراطية يتكلم عنها في ظل هذه الظروف، التي لا تخلو حسب رأيه من عنصر الارهاب والتي "يتخوف" منها هو نفسه!

يلوم ماكرون مجموعات الانتفاضة على عدم قدرتها على التحول الى قوة سياسية، مفترضا انها تتحرك في ظل نظام ديموقراطي، ويتجاهل كل عوامل "العنف" التي تعرضت لها والتي لمّح هو الى بعضها. ها هو ماكرون يغنّي بدوره للمنتفضين "تعا ولا تجي",

تتعامل القوى الاقليمية والدولية مع شعوب المنطقة بذهنية انها لا تستحق كيانات مستقلة ولا ديموقراطية حقيقية، بل كل ما تحتاج اليه هو المأكل والمسكن والمشفى، مع فتات اقتصاد، في ظل تعايش سلطات ومقاومات وبدون دولة. انها ذهنية "صفقة القرن" التي يبدو لي انه سيجري تعميم منطقها ليس على فلسطين فقط بل على المنطقة بأسرها وخاصة لبنان وسوريا والعراق.

على مجموعات الانتفاضة ان تتعاطى بجدية مع العوامل الخارجية المؤثرة وان تتوقف عن سياسة "تعا ولا تجي". عليها ان تفرض نفسها كمفاوض على المستوى الدولي، والا تعزل نفسها من خلال الصراخ بـ"لا" ضد التدخلات الدولية، من مثل صندوق النقد الدولي وغيره.

لعل في نجاح بعض المجموعات في التصدي لسد بسري، ما يساعدنا على الافادة من بعض عوامل النجاح: الضغط المستمر وغير المتقطع، رؤية واضحة للبدائل، تحالفات واقعية بحسب تقاطع المصالح، وطبعا تواصل فعلي مع الجهات الدولية المعنية، اي في حالة سد بسري، مع البنك الدولي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم