الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الزعيم ونعمة الألزهايمر

المصدر: "النهار"
قصة قاضٍ نزيه (تعبيرية).
قصة قاضٍ نزيه (تعبيرية).
A+ A-

كتب الدكتور نبيل نجا

 دخل عليّ في العيادة كعادته ضاحكاً متهكماً على نفسه أولاً وعلى كلّ من التقاهم في طريقه.

أبو جهاد مُتقاعد منذُ أكثر من عشرين عاماً، وهو كما يقول كان "كوميسير " في مخفر البسطا وحين يلفظها باللغة الفرنسيّة يشعر بالفخر الشديد حتى ينتفخ صدره من دون قصد وهو يعتزّ بماضيه، فقد كان من قبضايات بيروت، ولكن عندما ارتدى البزّة الرسميّة كان منضبطاً دائماً، رأسه مرفوع مدافعاً عن المظلوم وناصراً للحق.

لم يتصالح أبو جهاد مع نفسه في مرحلة التقاعد، وكلّما تقدّم به العمر ازداد الخلاف مع ذاته، فلم يكنْ يتقبّل المتغيّرات التي تصيبه في شيخوخته.

كان يكره لون شعره الأبيض، بدلة أسنانه التي تهتزّ في فمه، ترهّل صدره وبطنه وهو كان معروفا بعضلاته المفتولة، وضمور عضلات فخديه وساقيه التي تخذله حين يحاول صعود الدرج بفخر واعتزاز أمام أبناء جيله، كما لو كان يصغرّهم بعشرات السنين.

باختصار لم يحب أبداً فكرة تقدّمه بالسنّ أو كما كان يقول بلهجته البيروتيّة البسطاويّة المحببّة، "يا حكيم الكَبرْ ما حِلَوْ".

وما زاد من ثورته على العمر في هذا الصباح، أنّه ذهب ليتنازل لحفيدته الاولى عن سيارته التي يحبّها كثيراً ولم يعدْ يقوى على قيادتها بسبب متاعب نظره، ففاجأه كاتب العدل بطلب تقرير طبيّ يثبت أنّه مؤهّل ذهنيّا وعقليّا لإجراء هذه العملية.

صحيح أنّه جاءني ضاحكاً مازحاً، لكنه كان يستشيط غضباّ في داخله لأنّه بحاجة لأن يُثبت للدوائر الرسميّة بأنّه لم يفقد عقله بعد، وأنّه يتخذ قراره هذا وهو بكامل قواه العقليّة.

مرّت الأيّام، وأتاني هذه المرّة غاضباً ساخطاً لاعناً العمر والتقدّم بالسنّ فحاولت تهدئته والتخفيف من حدّة إنفعالاته لمعرفة أسباب فورته هذه... وبعد محاولات، استطعت امتصاص غضبه وقدّمت له فنجان قهوة حتى يهدأ لكنّه أجابني بتهكّم: "ما بدّك تاخدلي ضغطي قبل ما أشرب القهوة يا حكيم... ولادي مانعيني عنها".

ولكن حين أقنعته بأنّ فنجاناً من وقت لآخر لا يتعارض مع ضغطه وإنّ الانفعال والغضب أشد بكثير على ارتفاع الضغط، لذا عليه أن يهدأ ليخبرني بما أثاره في هذا الصباح.

وبعد أكثر من نصف ساعة من تطييّب الخاطر، أخبرني بأنّه يريد أن يبيع شقته في الجبل لأنّه لم يعد يستعملها لا هو ولا أحد من أبنائه، وبأنه وجد من يشتري في هذه الظروف بسعر مقبول فتوجه مع الشاري إلى كاتب العدل، الذي طلب منه تقريرا طبياً عن أهليته الذهنيّة، فما كان منه إلاّ أن أخرج التقرير الذي أعطيته أياه حين أراد أن يتنازل لحفيدته عن سيارته فأجابه كاتب العدل بأنّ التقرير قد تخطى الشهر وهو بحاجة لتقرير جديد.

وقال لي: "ما يكونو مفكريني عم بيع شي قنبلة نووية أو جايبلي شي وثقة أسلحة؟ دخلك حكيم يللي بتاجر بالسلاح بيطلبو منو تقرير اهلية ذهنية شي؟".

فأخبرته وأنا غير مقتنع بأن هذا إجراء روتينيّ وسنحلّ المسألة بسرعة ولا داعي لأن يستشيط غضباً لهكذا سبب.

تتوالى الأيام وتُطلب منّا دائماً تقارير عن الأهلية الذهنيّة في ظروف متعدّدة، وهذه التقارير مبنيّة على معطيات حسيةّ وإختبارات علميّة دقيقة، يُعطى بعدها من خضع لها علامات يُستند عليها حين تكون هناك قضايا شائكة وحساسة في المحاكم. ولعلّ أكثرها غرابة ما حدث لي ذات يوم في المحكمة.

إليكم القصّة.

في صباح يوم سبت، وعادة أنا أخرج باكراً من منزلي، توقّفت سيارة درك أمام مدخل البناية وسأل الدركيّ أحد الجيران: "هون ساكن الدكتور نبيل نجا؟"، ثم توجه بالسؤال إلى ناطور البناية. بعد أن تغيّرت نظرة الجيران إليّ بمجرد السؤال وبدأ الجميع يشككّ بأنني ارتكبت جرماً عظيماً دفع الدرك بالبحث عنيّ في صباح يوم سبت ماطر، وصل الدركي إلى منزلي فاستقبلته ولكنه رفض الدخول وسلّمني قصاصة ورق يطلبني بموجبها القاضي فلان إلى المحكمة للاستماع إلى شهادتي في قضية ما.

مرّت أيام قبل أن أُقنع الجيران ونواطير أبنية الحي بأنني لست مطلوباً بجرم، ولكن كخبير في قضايا الأهلية الذهنيّة للمثول أمام القاضي فلان لإقدام أحد ما، على استغلال خالته التي تعالج منذ اكثر من سنتين من مرض الالزهايمر، حيث تنازلت له عن بيت بعشرة بالمئة من قيمته الحقيقية.

لا أخفي أنّني وبعد زوال توتري ورُعبي من طريقة تبليغي بالحضور إلى المحكمة، شعرت بالإعتزاز لثقة هذا القاضي لأنه طلبني بالاسم... لذا وباليوم المنشود قمت بإلغاء كلّ مواعيدي وارتديت بزّة رسميّة وذهبت إلى المحكمة في الوقت المحدد أي التاسعة صباحاً.

لم أكن أعلم أن الدخول إلى المحكمة صعب إلى هذا الحدّ فمن أول نقطة تفتيش، ثم إلى ثاني نقطة تفتيش، ثم إلى تسجيل الاسم الثلاثي مع بطاقة الهوية والتاكد من بطاقة الإنتساب إلى نقابة الاطباء. صحيح إنني كنت أرى بعض الأشخاص بلباس مدني يدخلون من ممرات أخرى دون تفتيش، ولكنني تصورت بأنهم ربما هم موظفون في المحكمة أو معروفون من نقاط التفتيش لأسباب أجهلها.

في الداخل لم أجد نقطة استعلامات لأسال عن القاضي فلان، وحين هممت لتوقيف أحدهم للسؤال دخل بسرعة متهمّا مكبّل بيديه خلف ظهره بقميص قطنيّ أبيض بلا أكمام مع كلّ أشكال "التاتو " على الزنود وساعديه ويديه. من "أحبك يا سميرة" إلى "الحية الكوبرا"، إلى "وطني الغالي" مع الأرزة، إلى صورة لحمامة السلام مع غصن الزيتون.

وكان يرافقه عنصران من الدرك، لم اكن أعلم بأن مدخل المتهمين هو نفسه مدخل المدعويين للإفاة من خبراتهم.

عثرت أخيراً على موظف دلّني إلى الطابق الموجود فيه الرئيس فلان. أنا كنت أساله عن الاستاذ فلان، فأجابني بقليل من التهكّم "انت بتقصد الريس فلان".

كنت أعتقد أنّ كلمة ريّس تستعمل فقط في المرفأ، على كلّ حال لم يعُد هناك مرفأ، ولكن ما زلنا نسمع بكلمة ريّس...

في الطابق الثاني، كان الريّس فلان في مكتبه طلب منيّ الموظف الانتظار ... وجدت كرسياً فارغا بين منتظرَينْ فتسمرّت فيه... لحُسن الحظ أنّ هذه الواقعة لم تكن في زمن كورونا.

في الساعة الثانية عشرة إلاّ ربعاً، استدعاني الكاتب إلى مكتب القاضي الذي خرج واستقبلني بكلّ احترام، مما أنساني الثلاث ساعات التي قضيتها في الإنتظار.

كانت القضية واضحة وضوح الشمس، فقد كان هناك تقريران من طبيبين، يثبتان مرض السيدة بالالزهايمر منذ أكثر من سنتين على بيعها الشقة لابن شقيقتها. اطلعت على التقارير الطبيّة وأكدت صحّتها، وإستنتج القاضي أنّ هناك قضية استغلال واضحة وعليه أبطل عقد البيع وطلب احضار المتهم بالاستغلال...

بعد أن وقّعت على أقوالي التي كُتبت بالمحضر، وتوجه القاضي فلان إلى الكاتب وطلب منه أن يطلب من الفراش أن يحضر القهوة، فاعتذرت. أصرّ بكثير من التودّد، فقبلت، وعندها طلب من الكاتب الخروج من المكتب وإغلاق الباب...

أحببت كثيرا ثقة القاضي بي وتودّده، وشعرت بشيء من الفخر بخاصة أنّه اسم معروف في مجاله والجميع يكنّ له فائق الاحترام والتقدير.

وعندها توجه إليّ القاضي فلان بالقول: "كلامي الآن لا علاقة له بالقضية بتاتاً، وهو سؤال شخصي".

فقلت له أن يتفضّل، فقال لي بالحرف الواحد: "حاسس حالي عم إنسى حكيم... حابب آخذ رأيك، في شي مقوّي آخدو؟".

لم تمر عليّ كلمته مرور الكرام، ففي البدء ذُهلت وحاولت ونجحت أن أخفي ذهولي، وقلت له: "ريّس كلّ إنسان بينسى، ما هيّ كلمة إنسان مشتقة من فعل نسي. إذا بتحب بتشرّفني على العيادة ومنعمل بعض الاختبارات وبعض الفحوصات وعندها أعطيك المقويّات إذا لزم الأمر".

بعد أن انتهينا من القهوة، وشكرته وشكرني، اتفقنا على موعد في العيادة بعد أيّام قليلة.

وكنت تخطيّت مرحلة الذهول ودخلت في مرحلة الإعجاب بجرأة هذا الشخص بالبوح بسرّه لشخص تعرّف عليه منذ لحظات... والحق يٌقال بأنّه، ومن خلال مراقبتي له في عمله، لم أشكّ بضعف تقديره أو رزانة قراراته.

وزاد إعجابي به حين زارني في العيادة وأجرينا الاختبارات وتبينّ أنّه يتمتع بقدرات ذهنيّة ممتازة تسمح له ببمارسة مهنته بدقة وإصدار الأحكام وضميره مرتاح.

وأرجعتني هذ الحادثة إلى فيلم شاهدته سنة 2014 للمخرج دافيد دوبكين وتمثيل العملاق روبرت دوفال وهو "القاضي" The Judge، وهو قصة قاضي أخطأ بحكم لأنه كان قد بدأ يفقد قدراته الذهنيّة والعقلية نتيجة مرض يصيب الدماغ.

ومنذ هذه الحادثة وأنا أسال نفسي: "ما هي المهن التي يجب على أصحابها الخضوع إلى تقويم لقدراته الذهنية؟".

بالطبع، لن أبوح بها كلّها، ولكن لنقل بأنّ على جرّاح القلب أو جرّاح الدماغ أن يخضع للتقويم الذهني أقله مرة كل سنة، أو على الكاتب العدل الخضوع لهذا التقويم، أو على قائد طائرة مليئة بالركاب الخضوع بالإضافة الى الفحوص الجسديّة إلى تقويم لرجاحة قراراته الذهنية... وأترك للقارئ إكمال هذه اللائحة.

كما عادت بي الذاكرة إلى فيلم رائع أبدعت فيه الممثلة العملاقة ميرل ستريب بدور مارغريت تاتشر للمخرج فيلليدا للويد سنة 2011 وهو "المرأة الحديدية" The Iron lady، حيث أنها وعلى الرغم من قوة شخصيتها ورجاحة فكرها في فترة حكمها، أصبحت لا تعرف من هي حين استفحل فيها مرض اللأزهايمر.

حينها خطرت ببالي خاطرة غريبة: إنّ القادة الذين تسببوا في يوم من الأيّام بالخراب والدمار وانهيار المجتمعات، لن ينتشلهم من القعر الإجرامي اللاإنساني الذين وقعوا وأوقعوا فيه كلّ من والاهم إلا فقدان الذاكرة، فهو الحلّ الوحيد المتبقي لهم في الأرض قبل الذهاب إلى عدالة الخالق…

لذا عليهم أن يتضرعوا إلى الله بأنّ يمُنّ عليهم بنعمة الالزهايمر حينها ينسوا ما اقترفت أياديهم السوداء من إجرام وموبقات ويستعيدوا براءة الأطفال وطهارتهم.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم