الهجرة والفشل الوطني الإستراتيجي

أنطوان صفير

يتواصل نزيف هجرة العائلات والشباب عن أرضِ لبنان الى بلدانٍ بعيدةٍ، ويعصف بكياننا الوطني كخطر إستراتيجي يهدد ديمومة لبنان التعددي وتوازناته الديموغرافية وقوته الإنتاجية وتنوعه الثقافي وخصوصاً مع تفريغه من الحضور المسيحي. هو يشكل بكل بساطة أخطر الحروب على كل اللبنانيين. "وأرض لبنان التي تحوّلت إلى موئل للموارنة، توسّموا فيه عيشًا كريمًا ساعدهم، عبر زمن طويل، على بناء وطن جديد لهم كوّنوه بفعل إرادتهم وإرادة سائر اللبنانيّين، لتأمين الحرّية الدينيّة للجميع، والتعاون معًا كشعب واحد. حتى إنّ تاريخ لبنان الحديث قد تجمّع في هذا التلاقي الحياتيّ، على أرض واحدة، بين العائلات الروحيّة في لبنان، المسيحيّة منها والدرزية والإسلاميّة، على حدّ سواء".1

1. غياب الدولة الحاضنة

بدأت الهجرة تتبلور يوم هُجّرت القرى نحو المدن سعياً وراء العمل في قطاعات الصناعة والإدارة والخدمات، فضُرب التوازن الديموغرافي، وإنعدم الإقتصاد الزراعي المُنتج، وتحوّل المواطنون "النازحون" الى المدن الى مجتمع إستهلاكي في خدمة طبقات البزنس السياسي المتعاقبة، المرتهنة لمصالحها العائلية والشخصية دون أي رؤية إستراتيجية.

ثم تحولت الهجرة في أواخر القرن التاسع عشر الى البلدان القريبة، التي كانت إيجابية لهذه الدول، كمصر مثلاً 2، حيث لمع المهاجرون في مجال الصحافة والفكر وناضلوا من أجل حرية لبنان. ومع تطور الثورة الصناعية وتقدم العلوم، تحولت الهجرة الى بلدان بعيدة في الأميركيتين واوستراليا حيث افتتحوا "لبنانات" ناجحة في شتى الميادين. كل هذا بسبب غياب التخطيط من القيمين على السلطة. وما أشبه اليوم بالأمس، إذ أن الدولة عندنا لا تبالي بنزيف الهجرة ولا عجب، بعدما نهبت الأموال وحجزت أموال المودعين دون أي رادع قانوني او قضائي.

1 النصّ 4 من وثيقة المجمع البطريركي الماروني - الكنيسة المارونيّة في انتشارها العالميّ.

2 فليب حتي، تاريخ لبنان، دار الثقافة ، بيروت 1985 ص. 575.

2. أزمة حرية وعدالة وثقة

إنَّ الفكرة المتداولة عن أنَّ أسباب الهجرة هي محض إقتصادية تجافي الواقع والتاريخ، فأول أسباب هجرة اللبناني تعود الى غياب الحرية والعدالة وانعدام الثقة وكلها دوافع سياسية خالصة، بفعل ما حَلَّ من نكبات وما نشب من نزاعات دموية. الأمثولات كثيرة، أولاها نزاعات 1860 وما رافقها من مجازر وترهيب، وقد تفاقمت الأزمات مع فصل جبل لبنان عن الأراضي الزراعية الخصبة مما دفع أهل الجبل الى الهجرة الأولى.

إلاّ أنَّ ما نتخوف منه حالياً في لبنان هو في أن يُعيد التاريخ نفسه بعد مئة سنة، حين حلّت المجاعة الكبرى سنة 1914 مترافقة مع موجات الإضطهاد في زمن الحرب الكونية الأولى، فغادر ثلت أهل الجبل أرضهم - الأم نحو بلدان لا يجيدون لغتها ولا يفقهون عادات أهلها. وفي هذا تحدٍ كبير نجحت فيه الأجيال اللبنانية المهاجرة نجاحاً باهراً، وأضحت مضرب الأمثال. ولم تكلف الدولة نفسها القيام بأي جهد لإحتضانهم والإفادة من خبراتهم بل وظّفتهم قوى البزنس السياسي في تمويل مشاريع الأحزاب و"المقاطعجية الجدد" ونقلت اليهم عدوى السياسات التافهة التي لا تفيد إلا الحاكمين والمتحكمين.

إستمرت الهجرة على دفعات قليلة الى أن حَلَّت الحرب على لبنان في العام 1975، حيث غادرت أعداد كبيرة، ومن ثم وقعت حرب 1989 وحرب الإخوة 1990، فهاجرت عائلات من كل الطبقات. وقد حذرت قيادات من أن "الهوية اللبنانية مهددة بالواقع السياسي والإقتصادي الذي يدفع اللبنانيين ولا سيما المسيحيين إلى الهجرة، فيما يتثبت في لبنان مليونا نازح ولاجئ".3

والهجرة بسبب الرأي وازنة، فقد تعرّض كثيرون للتعذيب وضاقت مساحة الحرية، بسبب مخالفة توجهاتهم السياسية لأرباب السلطة آنذاك. وتحولت مناطق مختلطة تجمع مسيحيين ومسلمين الى اللون الواحد والرأي الواحد، بعدما فرضت أفكار متشددة مخالفة القوانين المدنية المرعية الاجراء، دون أن يؤخذ في الإعتبار شعور الشريك في النطاق عينه.

وكما لم تلفت الهجرة نظر السلطة وتحثها على التحرك السريع، فإنها لم تعط الإنتشار اللبناني ما يستحق من عناية وإهتمام، وتحوّلت وزارات "المغتربين" الى محميات حزبية وطائفية، وتشرذم اللوبي اللبناني المسمى "الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم" بفعل تأثرها بالأجواء السائدة في لبنان، بحيث إنتقلت سياسة الإختزال والقضم السائدة في الداخل اليها، مما أدى الى ضرب فاعليتها وقدرتها على الإنتاجية الوطنية.

3. البطريرك الراعي في منتدى بكركي الاقتصادي الاجتماعي آب 2019 .

2. تحديات الديوغرافيا

ينوء اللبناني الذي يعتاش من عرق جبينه تحت أوزار ظروف سياسية واقتصادية قاسية، حتى شهدنا إحتجاجات شبابية للمطالبة بفتح أبواب الهجرة، وذلك بسبب إنهيار الليرة والإرتفاع الجنوني لأسعار المواد وانعدام فرص العمل، رغم أن الأموال المحجوزة في المصارف قد خففت حركة الهجرة وذلك لعدم القدرة على السفر ليس إلا.

وقف الهجرة المسيحية مسؤولية مسيحية ووطنية، إذ لا يمكن لأي "زعيم" لبناني أو مسيحي أو حزب وطني أو مسيحي أو أشخاص قيمين على الطوائف أن يكتفوا بالإدانة والتفرج على إنهيار تعددية لبنان وتحوله الى الألوان الواحدة التي تسقط عنه صفة الرسالة.

إن لبنان دون مسيحييه لا يخدم المسلمين المتنورين، لأنه يفقدهم دورهم واشعاعهم في العالمين الإسلامي والعربي. طبعا إن المسيحيين قيادات وأفرادا، غير معفيين من المسؤولية بسبب ما وصلوا إليه، إذ انتخبوا السياسات عينها دون أي تجديد في الأشخاص والإداء وإرساء ما عرفوا به من تداول طبيعي للسلطة، وقد نسوا المسائل الإستراتيجية وغرقوا في كيديات وتفاهات "زعمائهم" وشكلوا وقوداً للإنقسامات ولزيادة الثروات مما أدى وسيؤدي بهم الى الهجرة.

هنالك تخوف مشروع من أن تصبح حال المسيحيين في لبنان بسبب الهجرة شبيهة بحالهم في كل الشرق، وأمثلة سوريا والعراق صارخة. ففي العام 1999 أضحوا أقل من 10 في المئة ثم إنخفضت النسبة إلى أن أصبحت اليوم لا تتعدى 5 في المئة من مجموع سكان العالم العربي4.

"في الواقع ليس بالإمكان فصل موضوع الهجرة عن موضوع الحضور والإنتماء المسيحي ضمن المجتمع العربي الإسلامي، فكلاهما متلازمان ومترابطان. إن الشعور بعدم الإنتماء يشتت التفكير ويبدد الإبداع، لأن الذي يشعر بعدم إنتمائه إلى مجتمع هو مهمش فيه، سينكمش بنشاطه وإبداعه ويتقوقع داخل أطره القومية والكنسية أو يهجر إلى  مكان  آخر. لهذا يعيش الكثير من الشباب المسيحي هاجس الهجرة والإغتراب وهم لا زالوا قابعين في أوطانهم"5.

في الخلاصة، ان البترول والغاز والثروات الطبيعية والخطب الفارغة لا تغني عن الانسان-المواطن الخلاق المنتج، والكلام عن حقوق الطوائف لا يبدل الواقع المرير في هجرة هذه الطوائف وعدم عودتها الى موطنها.

أين السياسة المعتمدة للحد منها؟ أين حوافز ابقاء المواطن في بلدته وبلده؟ ان الهجرة تؤكد فشل الحكام منذ عقود، وعدم مسؤوليتهم وأهليتهم للقيادة الوطنية، ولإرساء حوكمة رشيدة تحدد الخلل وتضع القوانين الواجبة والسياسات العامة الرائدة، لأنه ليس بالكلام التافه والكاذب ننقذ الوطن.

4. نيويورك تايمز العدد الصادر في 13/05/2009.

5. البيان الختامي لمؤتمر البطاركة السادس عشر، من 16 الى 20 تشرين الاول 2006 بزمار – لبنان .

¶ محام في نقابتي بيروت وباريس وفي مونتريال، أستاذ في جامعة القديس يوسف.