السلطة الحاكمة عجزت عن توفير الصحة والتعليم للجميع

ليس انفجار بيروت المروّع وحده الذي كشف عجز السلطة الحاكمة عن وقوفها إلى جانب اللبنانيين في محنتهم، وتوفير كل الرعاية الصحية، وتأمين التعليم المناسب لهم، بل كل الممارسات الناجمة عن سياسات فساد ومحاصصة ضربت البنية الصحية والتعليمية في البلاد، وجعلت القطاعين ينوءان تحت أزمات تستعصي على الحل في ظل المشاريع التي يذهب تمويلها إلى جيوب المتنفذين والمافيات والميليشيات وهيمنتها على القطاعات. كشفت كارثة بيروت هذا العجز والترهل، حين سقطت أجهزة السلطة في امتحان إسعاف المصابين وعمليات الإنقاذ، فتولى هذه المهمة الناس والهيئات المدنية، فيما المستشفيات الخاصة التي دُمِّر بعضها كانت على قدر المسؤولية وهي المتروكة من السلطة لمصيرها.
نكتشف أن نحو نصف سكان لبنان لا يتمتعون بأي شكل من التأمين الصحي الرسمي، فيما التغطية الصحية تعوقها المحاصصة والفساد والعقبات الإدارية، والزبائنية والمحسوبيات الطائفية. ويظهر عجز السلطة بكل نسخها في التعامل مع القطاع الصحي من خلال المحاصصة، حين كان الصراع يدور حول الإمساك بوزارة الصحة. وقد تجلى هذا العجز في اهتراء المؤسسة الصحية العامة ووضع المستشفيات الحكومية التي تحولت مستوصفات للمعاينة أو مراكز علاجية بدائية، بسبب المحاصصة القائمة والفساد، حتى تفشى كورونا ولم يواجه الوباء سوى مستشفى الحريري الجامعي من بين 30 مستشفى حكوميا وبدعم من مبادرات محلية خاصة ودولية. 
القطاع التربوي يئن تحت الأعباء بكل مكوناته ومؤسساته. انعكست تداعيات الأزمة في شكل مأسوي على التعليم الخاص ومدارسه وعلى التعليم العالي، وهشّمت التعليم الرسمي الذي يعاني في الأساس من مشكلات كبرى، واصابت الجامعة اللبنانية في دورها ووظيفتها فحولتها مرتعاً للتدخل السياسي والطائفي والهيمنة الحزبية التي تتقاسمها القوى المشاركة في الحكم. السياسات الحكومية للسلطة الحاكمة بنسخها المتعاقبة لم تر في التربية مفتاحاً لإعادة النهوض، بل كانت تسير في إدارتها القاصرة في حلول مجتزأة للقطاعات تفتح شهية آخرين على المطالبة بحصص في التوظيف، ما أدى الى مزيد من التأزم لا بل الإفلاس. 
خلال السنوات الـ25 الاخيرة، وبعد اتفاق الطائف الذي كرّس ثلاثية السلطة، كانت التربية في المرتبة الاخيرة من الاهتمام. 
لم تستفق السلطة بعد انفجار 4 آب الكارثي، ولم تحضها تداعيات وباء كورونا لإعادة التفكير في مقاربة أخرى للتربية. فما حدث من تحولات في قطاعات التعليم كلها جراء الأزمة، كشف قصور السياسات التربوية عن تأمين تعليم مستدام ونوعي في الرسمي والحفاظ على مكانة التعليم الخاص وفق قوانين تنزع الشرعية عن المدارس التجارية وترعى حرية التعليم وتعزز مستواه. هذه السياسات وممارسات الحكومات في التعامل مع التربية أفقدت التعليم الرسمي ثقة اللبنانيين فيه، على رغم أن عدد المدارس الرسمية اليوم يناهز الـ1400 مدرسة وثانوية. فالأرقام وفق المركز التربوي للبحوث والإنماء الذي تحول من عقل للتربية الى مجرد وسيلة لمتابعة أعداد التلامذة ولا يقوم بدوره الذي أنشئ من أجله لاسباب سياسية وطائفية وحسابات ومواقع ومراكز قوى بين أهل السلطة، تشير إلى أن المدرسة الرسمية في 2018- 2019 لم تستطع استقطاب أكثر من 324 ألف تلميذ، من 1100000 ألف تلميذ في لبنان. السياسات التربوية  للسلطة ساهمت في ترهل التعليم الرسمي واهتزازه. المشكلة أن الحديث الرسمي عن امكان استيعاب المدارس والثانويات، التلامذة المنتقلين من التعليم الخاص، كان مجرد دعاية سياسية للقول ان الحكومة ووزاراتها تضع كل امكاناتها لتوفير مقاعد دراسية للجميع، لكن هذه السياسة تضليلية بامتياز نظراً الى أن التعليم الرسمي أهمل منذ زمن ولم يعد من الأولويات.
الحكومات بنسخها المختلفة لأهل السلطة، تعاملت بموضوع التعليم كأنه ملف تجاري. التضليل كان سيد الموقف، ففي حين كانت وزارة التربية تتحدث عن استيعاب آلاف التلامذة من التعليم الخاص، يظهر احصاء للمركز التربوي للعام الدراسي 2018- 2019 أن الزيادة في عدد الملتحقين بالتعليم الرسمي لم تتعدّ 0,41 في المئة مقارنة مع العام الذي سبقه. ولم تتغير نسبة الالتحاق بالتعليم الرسمي من الخاص كثيراً في السنة الدراسية 2019- 2020، وهي سنة انطلاق انتفاضة 17 تشرين الاول، لكنها كشفت عن حجم الازمة في التعليم التي لم تواكبها سياسات حكومية مؤاتية لابتكار حلول. وإذا كان يقال اليوم عن انتقال 100 ألف تلميذ الى القطاع الرسمي، فإن مدارسه غير جاهزة، وهي تنهار بفعل سياسات السلطة الحاكمة وعجزها.
فساد السلطة لا يقتصر على قطاع بعينه، هو جزء من منظومة تطال كل مفاصل البنية اللبنانية. وأدت سياستها أيضاً إلى عدم تطوير المناهج التربوية وإجراء التقييم التربوي المطلوب والاختبارات الضرورية، حتى حلّ لبنان في المرتبة الأخيرة، عربياً، في اختبارات (PISA) العالمية. انكشف المستور حين خاض التلامذة اللبنانيون في 2019 تقييم مهارات القراءة والرياضيات والعلوم، وعزفوا عن المشاركة في المهارات الشمولية ومهارات الحياة. وأظهرت نتائج الاختبارات في المواد التعليمية، أنّ نسبة صغيرة من التلامذة يبلغون مستويات متقدّمة في المهارات في أحد المجالات على الأقل. كما حل في المرتبة الـ74 من أصل 77 دولة شاركت في الاختبارات. فالتعليم ليس بمنأى عن التدهور السياسي والأزمة الاقتصادية وتردّي الأوضاع الاجتماعية في البلد. 
هذه السياسة التربوية تنسحب بقصورها على التعليم العالي، هي سياسة فاسدة لأنها تقوم على المحاصصة والمصالح الخاصة. الحكومات المتعاقبة تعاملت مع الجامعة اللبنانية مكاناً للتوظيف، فغيّرت وظيفتها البحثية. الجامعة الوطنية التي تحتضن أكثر من 80 ألف طالب وطالبة، لم تعط اللبنانيين اليوم الأمل بتعليم جامعي ذي جودة يفتح الآفاق على سوق العمل. وهذه الجامعة تواجه تحديات كبرى ومشكلات لا تستطيع أن تتجاوزها بعدما توزعت فروعها بين قوى السلطة السياسية والطائفية. فيما يعين رئيسها وأعضاء مجلسها بالمحاصصة بين قوى السلطة الحاكمة.
وشهدنا في التعليم العالي، طوال العقود الثلاثة الماضية، منح تراخيص لمؤسسات تعليم عال لا تستوفي الشروط. ونشأ نظام جامعي تجاري رعاه النظام السياسي الطائفي والسلطة من خلال المحاصصة. أضر هذا النظام بدور لبنان في التعليم العالي في المنطقة، وضرب صدقيته، وأثر على الجامعات التاريخية العريقة التي باتت اليوم أيضاً مهددة بالازمة المالية والاقتصادية التي تسببت بها سياسات الطبقة الحاكمة بكل مكوناتها. إصلاح قطاع التعليم العالي، يستحيل كارثة مع الطبقة السياسية الحاكمة وقوى السلطة التي تمعن في ترسيخ المحاصصة والتغطية على المخالفات. وهذه السلطة تعجز عن رسم خريطة طريق تؤدي إلى معالجة الخلل في بنية النظام التربوي، بل تدفعه مع البلد إلى مزيد من الإنهيار.