الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

هل يَرضى "حزب الله" بحلّ الدولتين؟

يُصغيان إلى كلمة السيد نصرالله (أ ف ب).
يُصغيان إلى كلمة السيد نصرالله (أ ف ب).
A+ A-
كتب فادي تويني
 
لإخراج لبنان من المأزق الذي هو فيه، واستعادة اللبنانيّين حقّهم في حياة طبيعية مُطمئنّة، لا سيّما بعد انفجار المرفأ الكارثي، لا بدّ من العدول عن تسويات السياسيّين المعتادة، وهم يخشون خسارة موقعهم، أوّلاً بأول، وليس البلد. لا بأس، إذاً، في الاستعانة بالروائي أمين معلوف، إن ابتكر هو حلّاً سياسيّاً من خارج السرب، نابعاً من حَدْسه التاريخي. ففي مجلّة "لوبوان" الفرنسية، أتى الكاتب اللبنانيّ مؤخّراً باقتراح حلّ "أُمميّ" (لا يختلف في جوهره عن فكرة اقترحتُها في "الحياة" على حلقتين في 17 و18 شباط 2016)، من أجل حماية لبنان تحت مظلّة الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، وبمؤازرتها، لإنقاذه، وضمان سلامته، وانتظامه.
 
"مثالية" أمين معلوف، إن عيّره البعض على هذا النحو، إنما هي في منتهى الواقعية لسببين. أولاً، فلو أن السجال الدائر حالياً في لبنان بين "السياديّين" و"الممانعين"، أو، في منحى أخطر، بين بكركي و"حزب الله"، محصورة خيوطه بين اللبنانيّين أنفسهم، فلَن يتعذّر إيجاد صيغة يَطمئنّ إليها اللبنانيّون. وثانياً، إنّ اعتراض إيران الفوري على المبادرة الفرنسية، والانتقادات السورية، والانخراط التركي المستجدّ، إنما تنذر جميعاً بعراقيل أمام المبادرة الفرنسية، رغم تعاطف معظم اللبنانيّين معها، ما لم تتوفّر لها حاضنة أُمميّة وازنة، من أركانها روسيا، وكذلك الصين، لا الأميركيّون والأوروبيّون فحسب. فليس لروسيا من مصلحة في الشطط الإيراني في لبنان، إن أراد الروس إعادة إعمار سوريا. فإن لم يتعافَ لبنان، وإن لم تعُد بيروت وتقف على رجليها، وهي بوّابة دمشق على العالم، فمهمة روسيا تزداد عسراً. وكذلك، لا مصلحة للصّين في تمادي إيران، والصين حليف طارئ لإيران ومُزمن ونِدّي لإسرائيل.
 
الانفجار الكارثي الذي دمّر مرفأ بيروت والشطر الشرقي من العاصمة على وجه الخصوص، وقد شبّهه أحدهم بالزلزال الذي ضرب بيروت القديمة سنة 551 وقضى على 30 ألفاً من سكانها، وغيّر مسارها، لم يدرك بعد الأقطاب السياسيّون وقعه على اللبنانيّين إدراكاً كافياً. فالدّمار الذي لحق بمناطق الجميّزة والمدوّر ومار مخايل والكرنتينا وجوارها، ومار نقولا ومعظم الأشرفية، ودمار المرفأ، وما للمرفأ من قيمة استراتجية، ورمزية في ذاكرة المدينة البحرية، لم يكن نتيجة غارة عنيفة عابرة لعدوّ خارجي أو داخليّ (أو الإثنين معاً)، لنعود من بعدها ونضمّد جراحنا، نبني وننسى. فما الأمر كذلك. ففي غضون ثوانٍ، تحوّلت حياة آلاف الناس من نمط عاديّ إلى كابوس نوويّ، أو انتهت، وانمحى أو كاد أن يُمحى قرن ونصف القرن من خامة المدينة المعمارية ومعالم حيويّتها وتمدّنها وذوقها، ليُستبدل بالتشرّد والخراب على أيدٍ همجية، وكأنّ التحضّر ممنوع عنّا والبداوة قدَرُنا.
 
ذلك أنّ الوضعية الشاذّة في مرفأ بيروت التي تسبّبت بالفاجعة إنما هي تختزل منحًى خطيراً لمربّعات حزبية، أكان اسمها "بوّابة فاطمة" أم بوّابات أخرى، في المرفأ وخارجه، هي خارجة عن السيطرة (رئيس الدولة أكدّ للصحافيّين أنه غير مسؤول، كما لم يتمّ حتى الساعة توقيف أو التحقيق مع أي من القادة الأمنيّين)، ومن حق اللبنانيّين الاستنجاد بمن يحميهم منها. فقد سكت اللبنانيّون عن وضع جائر فُرض عليهم منذ الحقبة السورية، وابتلعوا موس الميليشيات حتى تسبب لهم بنزيف أمني واقتصادي قطع حيل لبنان. وما إنكار أمين عام "حزب الله" معرفة حزبه بما يجري في مرفأ بيروت إلا ليصبّ زيت الإزدراء على نار الفاجعة، ويزيد قرائن الشبهة ضدّ حزبه. فكما في اغتيال الحريري، والاغتيالات الأخرى، ليس هَمّ اللبنانيّين ما إذا كان قرار القتل، على خطورته، قد اتُخذ في ضاحية بيروت أم في كفرسوسة، أو ما بين الإثنين، بقدر ما هو مَنْ يحمي اللبنانيّين من قرار قتل مقبل، أو حرب، أو مواد متفجّرة، والجواب الذي حمله دمار المرفأ إنما هو: لا أحد.
 
وعليه، فعندما يأتي الكلام على تسليم سلاح "حزب الله"، والجماعات المسلّحة الأخرى، فإن لم يكن هو للمزايدة السياسية، بل لمعالجة لبّ المشكلة التي تفرّق بين اللبنانيّين وتمنع عنهم حياة دستورية طبيعية، فمن الأخلق أن يُقرن تسليم السلاح، إن أردناه موفّقاً، بآلية موثوقة تضمن سلامة كل من يدور في فلك الحزب، ومن باب أولى، تضمن أمن اللبنانيّين على حد سواء، وتطمئنهم، وتطمئن الشيعة منهم في المرتبة الأولى.
 
فانتقال لبنان من التفكك السياسي الذي هو عليه والحفرة الاقتصادية التي وقع فيها إلى وضع طبيعي سليم، إنما يستلزم، كما أسلفنا، غطاءً ليس مالياً فحسب، إنما أمنيّاً أيضاً، وتقنيّاً، وسياسيّاً، حتى يتسنّى للبنان، خلال فترة سماح، تطوير بناه التحتية واقتصاده وكذلك قدراته الدفاعية.
 
ولكن، ماذا إن لم يكن أمن اللبنانيّين هو بيت القصيد لدى "حزب الله"، بل أنّ السلاح الحربي غرضه تلبية حاجة إيرانية، كما لبّى حاجة سورية من ذي قبل؟ للتّذكير فقط، فقبل انخراط الحزب في الحرب الأهلية السورية، وبعد تحرير جنوب لبنان في العام 2000، أُبقيَ "حزب الله" على سلاحه تحديداً بعدما فشل حافظ الأسد وأيهود باراك في إبرام اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل لاختلافهما على بضعة أمتار حول بحيرة طبريّا. فلو اتفق الاثنان حينذاك، لَجُرّد "حزب الله" من سلاحه، ولَمَا سمعنا بمزارع شبعا المحتلّة، والتي لم تعترف دمشق حتى اللحظة، خطّياً ورسمياً، بالسيادة اللبنانية عليها. فحينما يكون السلاح أداةً تتخطّى لبنان، فللدّول الخمس الكبرى وزنها في تحييد البلد الصغير عن حلبة المبارزات الإقليمية الكبرى.
 
ومع ذلك، فالأمور لا تتمّ بالإملاءات أو الفتنة، بل بالرّضى السياسي والطُمأنينة. فإن أصرّ "حزب الله" على تَبَعيته الحربية، فوق رأس اللبنانيّين، فما من حلّ حينئذٍ إلا بالقِسْمة، استناداً إلى استفتاء شعبي يفصل بين خيارين.
 
الأوّل: دولة لبنانية ديمُقراطية مدنية في حِمَى دستورٍ واحد، وجيش واحد، وسياسة خارجية واحدة، مواطنوها سواء أمام القانون.
 
والثاني: دولة "حزب الله" العقائدية والمقاومة.
 
يترتّب على نتائج الاستفتاء، إذاً، قيام كيانين مستقلّيْن، كل منهما على مساحة جغرافية تتناسب مع المجموعة التي اختارت أن تنتسب إليه، فضلاً عن مساحات مشتركة تحت إشراف دولي. فعلى هذا النحو، تتم تسويةٌ، لربما مؤلمة، إنما تُنقذ ما يمكن إنقاذه من لبنان، بدلاً من خسارته عن بكرة أبيه إذا ما استمريّنا على شقاق بين من يريد دولة طبيعية في ظلّ القانون، لا يعتريها الفساد والسلاح، متينة ومسالمة، ومَنْ، في الطرف الآخر، يتمسّك بكيان تابع وعقائدي يعكف على حروب بالوكالة مفتوحة الأفق. فأيّ حلّ في لبنان ما هو بحلّ إن أسفر عن تسوية ما بينَ بَيْن بالنسبة إلى السلاح ومرجعية الدولة. وإلا فما أن نَنعم بهدوء نسبيّ حتى يُنغَّص عيشُنا بانفجار مفاجئ، ولو بعد حين، لأنّ ما من مصير مضمون خارج المرجعية الدستورية.
 
هذه القِسمة على أساس دولتين ما هي من طموحات جيل لبناني جديد ظُلِم سياسيّاً وحُرم من حقوقه الاقتصادية من قِبَل جماعة حاكمة مذهبية وفاسدة، إنما هي من مخلّفات حرب أهلية واحتلالين، وثقافة زبائنية لا علاقة لها بمشروع الدولة وتجديد النُخب. وهؤلاء الشبان الذين انتفضوا في 17 تشرين وبرهنوا عن نُبل وتفانٍ وجدارة في الأداء، خصوصاً عندما بادروا، بتنظيم لافت، إلى مساعدة أحياء بيروت المنكوبة بعد انفجار المرفأ. فقارن مبادراتهم على الأرض بغياب السلطتين البلدية والحكومية الفاشلتين، كما السلطات الأخرى في رأس الهرم. هؤلاء الشابات والشبّان يقدّمون للبنانيّين كلّ يوم نموذجاً عن الحكم الرشيد.
 
إلا أنّنا مُكرَهون، رغم ذلك، على مواجهة الوقائع بلا أوهام، أو إملاءات، أو شبه حلول كاذبة، وذلك من أجل إنقاذ ما يُمكن إنقاذه. وللناس الخيار. فلو أن المسألة مرتبطة حصراً بسلامة اللبنانيّين، فالحلّ متوفّر، كما أكّدنا. وأمّا إن كانت المسألة مرتبطة بأمن الآخرين على حساب لبنان، فليس في يدنا حيلة، وعملية فك الارتباط تصبح بالنسبة إلينا "شرط وجود"، استعارةً لتعبير السيّد نصرالله الذي ما ترك لنا خياراً.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم